فيلم تونسي يناقش قضايا الحاضر السياسية من خلال مريض نفسي

ظافر العابدين لـ"العرب": "غدوة" فيلم إنساني يتشابك مع مشاكل المجتمع.
الاثنين 2021/12/06
علاقة أب وابنه تخفي حكاية بلد كامل

بعد سنوات في مجال التمثيل قرر التونسي ظافر العابدين استعادة حلمه بالإخراج لأول مرة وزاد عليه التأليف والإنتاج في فيلمه الأحدث “غُدوة” الذي يتناول بشكل ذكي مواضيع سياسية وأخرى اجتماعية. وقد اعتبر العابدين أن الفيلم يحقق له حلمه في الإخراج الذي كان يراوده منذ سنوات. “العرب” كان لها هذا الحوار مع ظافر العابدين حول فيلمه الجديد، ولقاء مع أبرز نجوم الفيلم.

القاهرة– ضمن المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي اختتم الأحد، شارك الفيلم التونسي “غُدوة”، وهو التجربة الإخراجية الأولى للفنان ظافر العابدين، وتدور أحداثه حول “حبيب” وابنه “أحمد”، لكن الماضي السياسي للرجل خلال سنوات الدكتاتورية في تونس يؤثر على حاضره فتنقلب الأدوار ويجبر “أحمد” على العناية بأبيه والحفاظ على سلامته الصحية.

الفيلم من تأليف وإخراج وبطولة ظافر العابدين وسيناريو وحوار أحمد عامر، وإنتاج درة بوشوشة، وشارك في البطولة غانم الزرلي ونجلاء بن عبدالله ورباب السرايري والفنان بحري الرحالي والطفل أحمد برحومة.

التجربة الأولى

الفيلم لا يتحدث عن طرف سياسي معين بينما يسعى لإظهار الحقيقة وفهم ما الذي حدث في التاريخ لتتحقق العدالة

التقت “العرب” ظافر العابدين وتحدث مع بعض أبطاله حول كواليس صناعة الفيلم، والذي يمثل التجربة الإخراجية الأولى لظافر والتي قال إن فكرة إخراج عمل سينمائي كانت تراوده منذ فترة، خاصة أنه في بدايته الفنية عمل مساعد مخرج لمدة عام ونصف، وتكمن جاذبية الإخراج في تحمل مسؤولية عمل كامل، من طرح وجهة نظر وطريقة التصوير واختيار النص، ما يتيح الفرصة للتعبير عن الأفكار.

وحول إنجاز الفيلم ومدى الصعوبات التي واجهته للخروج إلى النور، يقول ظافر لـ”العرب”، “جاء الأمر سهلا للغاية وأرسلت السيناريو إلى المنتجة درة بوشوشة التي أبدت إعجابها وموافقتها، وطلبت البدء على الفور، ولم يمر أسبوع حتى قمنا بالتحضير وبسرعة لم أتوقعها، فثمة أفلام تستغرق سنوات لتصل إلى مرحلة إنجازها”.

ويضيف “جاء التحضير للفيلم وتصويره في ظل ظروف صعبة للغاية بالنسبة إليّ بسبب وفاة والدتي بعد أسبوعين من بداية العمل، ثم تفشى فايروس كورونا، وأعتبر نفسي محظوظا بفريق العمل الذي جعل الفيلم يظهر بصورة لائقة في وقت قياسي”.

وتوضح درة بوشوشة في تصريح لـ”العرب” أنها وظافر يعرفان بعضهما منذ عشرين عاما وعملا سويا من قبل، وحينما لاحت الفرصة للعمل معه كمخرج لم تتردد، حيث أعجبتها فكرة العمل معه، فهو يتمتع بالعزيمة والطاقة والتصميم وأدرك جودة عمله، وحينما اقترح السيناريو قرأته وأعجبها للغاية.

آراء سياسية متفرقة

نجلاء بن عبدالله: من العناصر المهمة لنجاح الفيلم تحقيق اللحُمة بين كل الشخصيات

رغم أن الكثير من الفنانين يخشون الإفصاح عن آرائهم السياسية خلال السنوات الماضية كي لا تكون لذلك تأثيرات على مسيرتهم المهنية، لكن يبدو أن ظافر العابدين لم يضع ذلك في الاعتبار عند إنجازه لفيلم “غدوة” الذي لا يخلو من الإشارة إلى قضايا سياسية متفرقة دون أن يفكر في تبعات ذلك وتداعياتها عليه مستقبلا.

 يقول العابدين “لم أخض في الأحاديث السياسية مباشرة وليست لديّ مواقف واضحة حول بعض القضايا، والفيلم عمل فني بامتياز يحكي عن المجتمع التونسي وعلاقة ابن بأبيه، وأقدّم من خلاله إطارا عاما للبلاد والأوضاع في تونس، وليكتسب الفيلم مصداقية كان لا بد من الحديث عن بعض التطورات والإشارة إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تدور في إطارها قصة الفيلم، فكانت هناك ضرورة للتطرق إلى هذا الجانب، لكن العمل يظل فيلما إنسانيا حول علاقة أب وابنه وتشابكاتها في المجتمع التونسي”.

ويشير إلى أنه لم يفكر في  تفسيرات الناس لموقفه السياسي، ولم يشغله رد الفعل على الفيلم، فما يهمه مصداقية العمل وأن تخرج القصة واقعية وقريبة إلى الناس فيصدقونها ويعيشون معها ويؤمنون بها، وعلى كل إنسان القيام بدوره ويترك مهمة تقييم التجربة للآخرين.

ويردد البطل طوال الفيلم كلمات من نوعية “المصالحة – الحقيقة – العدالة”، وحول مقصده منها، يقول ظافر العابدين لـ”العرب”، “المصالحة المقصود بها أن تتم بين المجتمع التونسي كله، فالفيلم لا يتحدث عن طرف سياسي معين، وأرى ضرورة أن تظهر الحقيقة ونفهم ما الذي حدث في التاريخ ولا بد أن تتحقق العدالة كي لا يشعر الناس بالأحقاد في دواخلهم لعدم حصولهم على حقوقهم”.

شخصية مختلفة

شخصية مضطربة تفضح واقعا سياسيا مأزوما
شخصية مضطربة تفضح واقعا سياسيا مأزوما

عن دور حبيب الذي جسده ضمن أحداث فيلم “غُدوة” والذي جاء مختلفا عن نمط أدواره السابقة يقول العابدين “حكاية الفيلم مهمة للغاية بالنسبة إليّ، وكان لا بد أن أحكيها بطريقة معينة والدور فيه عمق كبير ربما لم يتوافر في أدوار أخرى، فالحكاية هي التي فرضت أن يخرج بهذه الأبعاد، والشخصيات التي قمت بها من قبل موضوعها فرض نوعيتها وحدد اختلافها من عدمه، وأهم شيء في العمل أن يخرج متسقا والأفكار متماشية مع بعضها، والأدوار متناسبة مع الحكاية”.

وجسد ظافر العابدين شخصية “حبيب” الذي رغم مرضه النفسي ومعاناته في الحياة يظل شغله الشاغل البحث عن الوصول إلى العدالة والمصالحة بين الشعب التونسي.

ويلفت إلى أن “بطل الفيلم لديه نظرة صحيحة للمجتمع وقضية يدافع عنها حتى من قبل أن يصيبه المرض، فهو يحب العدالة والخير لتونس ويراها في مكانة معينة ومهما عاش وتأثر وما مر به من مرض سيظل يحمل وجهة نظر جيدة تجاه بلاده إلى النهاية، وأراه شخصية إيجابية في الفيلم، همه الوحيد أن تحظى تونس بمكانة أفضل، ومع الظروف العصيبة التي يعيشها والمرض فإن ذلك لم يؤثرا عليه سلبا أو يغير قناعاته”.

ويحتوي الفيلم على مشاهد تبدو كأنها الأخيرة، لكن يفاجأ الجمهور بتتابع الأحداث مرة أخرى، وأن إسدال ستار النهاية لم يحن بعد، وهو ما فسره مخرج العمل بقوله “الفيلم يوضح المعاناة اليومية للبطل، لكن لم يظهر ضمن الأحداث ما حدث معه في الماضي الذي يؤثر على كل لحظة من حياته، فهو لديه معاناة مستمرة ويرى ما لا يفهمه الناس، ويعاني من اضطرابات نفسية، فحياته ممتلئة بالاختيارات وكل اختيار يفضي إلى نهاية قد تغير حياته، ويحاول البقاء والدفاع عن نفسه واستكمال المسيرة، فهو شخصية إيجابية لا يكف عن المحاولة وفي كل مرة يتغلب على ظروفه”.

مريض نفسي

درة بوشوشة: ظافر العابدين يتمتع بالعزيمة والطاقة وأدرك جودة عمله

تتطلب الأدوار التي تناقش مرضا نفسيا استعدادات خاصة وطريقة معينة توضح للمشاهد أبعاد هذا الجانب ومكوناته، وحول كيفية قيامه بذلك وكيف وازن بين أدائه كممثل وبين التركيز كمخرج في الاعتماد على كادرات معينة تظهر للمشاهد الجانب النفسي يقول العابدين “كان من المهم أن أكون قريبا إلى الشخصية، فهي أهم شيء في الفيلم، وليس الديكور أو أي جوانب أخرى، وينبغي أن تتابع الكاميرا حركة البطل على الدوام، كي تعايش حالته وتصبح قريبة منه ومن تعبيرات وجهه”.

وحول  تأثير هذه الشخصية عليه في الحياة العادية خارج كواليس التمثيل أو حتى تشتيت انتباهه كمخرج أثناء تصوير الفيلم بسبب اندماجه في أدائها، يوضح “أكون على طبيعتي قبل التصوير وأركز على الشخصية في التمثيل وأحاول الخروج منها بمجرد انتهاء تصوير دوري، فهناك ممثلون يندمجون ويتوحدون مع الشخصية طوال مدة التصوير”.

ويقول “حاولت أن أكون في حالة مريحة، فكوني مخرج العمل لا ينبغي لي التفكير في نفسي فقط، وأثناء التصوير كان همي فريق العمل أكثر من نفسي، لأن أفراده مسؤوليتي، ويعطون من روحهم وقلبهم للعمل، ويؤمنون باختياراتي في العمل والإخراج وأنك ستفعل ما تراه صحيحا، فمن المهم التركيز معهم وعدم التفكير في دوري فقط، وتلك كانت طريقتي في إخراج الفيلم”.

جاءت الحوائط في منزل البطل ذات ألوان باهتة بينما ستائره من اللون الأصفر الذي عادة ما يستخدم للتعبير عن المرض النفسي، وبدا المنزل فخما ومرتبا في الماضي وساءت أوضاعه في الحاضر.

ويكشف العابدين أنه قصد تصوير حالة البيت أكثر من أي شيء آخر للدلالة على أن هذا المنزل كان يوما ما مبهرا، وتدهور حاله مع الزمن، وهذا ينعكس في نفس الوقت على ما جرى في تونس، فهي غالية علينا ونحبها للغاية وكانت في مكانة كبيرة عبر التاريخ فتشعر أن الظروف السياسية والاجتماعية جعلتها تتدهور، وهذا المنزل ما هو إلا انعكاس لتونس.

ويؤكد العابدين لـ”العرب” أن كل شخص يتربى على أشياء والمجتمع الذي يعيش فيه يؤثر عليه وعلى اختياراته، لذا فضل الاستعانة بشخصية الابن لطرح إشكالية هل يمكن أن يحقق المجتمع أحلامه من خلال الجيل المقبل، فهي علاقة مهمة بين الماضي والحاضر والمستقبل.

في شخصية الابن تميز أحمد برحومة الذي جسد شخصية أحمد نجل حبيب، بأدائه السهل والقوي في الفيلم، وكان حضوره طاغيا ويشي بموهبة لها مستقبل باهر في عالم الفن، على الرغم من أن هذه تجربته الأولى في فيلم طويل.

مصدر لسعادة البطل

أهم شيء في العمل السينمائي أن يخرج الفيلم متسقا والأفكار متماشية مع بعضها والأدوار متناسبة مع الحكاية
أهم شيء في العمل السينمائي أن يخرج الفيلم متسقا والأفكار متماشية مع بعضها والأدوار متناسبة مع الحكاية

من بين الشخصيات اللافتة في العمل “سعدية” التي جسدتها الفنانة التونسية رباب السرايري، وكانت تظهر وتختفي ضمن الأحداث، وتبدو كما لو أنها مصدر السعادة في حياة البطل المضطربة، وهي صوت البطل، وتقول له الأشياء التي يحبها وينتظر أن يسمعها، تحادثه عن الحب والجمال، فشخصية “حبيب” تعاني من الفصام والانقطاع عن الواقع، وتظهر له سعدية في الوقت الذي يكون فيه في أعلى حالات المرض، واسم “سعدية” في الثقافة المغاربية معروف بأن له علاقة بعالم الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة).

والفانتازيا التي ظهرت عليها “سعدية” مقصودة لأن الواقع غير قادر على تلبية الاحتياجات النفسية والعاطفية لحبيب فخلق شخصية خيالية تلبي له هذه الاحتياجات.

غانم الزرلي: الدور لا يقاس بحجمه لكن بمدى تأثير وجوده ضمن الأحداث

ويقول الفنان غانم الزرلي لـ”العرب”، “عندما هاتفني ظافر العابدين بشأن الدور وحكى لي قصة الفيلم تملكتني طاقة جبارة وشعرت بأنه إنسان يحمل حلما، فهو لم يقل قم بالدور بل قال أراك معي في هذا الفيلم ودون تردد وافقت على المشاركة، وكنت مفعما بالطاقة،  خاصة مع عمق الفكرة والشخصية التي أقدمها”.

وأضاف الزرلي “لا يقاس الدور بحجمه لكن بمدى تأثير وجوده ضمن الأحداث وعلاقته بالشخصية الرئيسية في الفيلم، وهذا ما يهمني، وتيقنت أنني سأجد ظافر في واحد من أفضل الأدوار التي قدمها، وأحييه على أدائه الرائع، وأتوقع حصوله على جائزة لأنه من الجميل أن نجما في مستواه يعطينا درسا في الأداء ويجعل الناس ترانا بشكل مختلف، وسعدت لوجودي في فيلم تعبر أفكاره عنا جميعا، واستطعنا بسهولة أن نتبناها”.

وذكر الزرلي أن العمل مع مخرج هو ممثل أصلا جعل الأمور تمر بشكل سهل،  ولم نأخذ عليه ملاحظات، وكانت العلاقة تكاملية بها انحياز تام للممثل، وهو ما جعل التجربة استثنائية وممتعة.

بينما قالت الفنانة نجلاء بن عبدالله لـ”العرب”، “كان ظافر يحكي عن عمله وشخصياته بحماس بالغ، وحتى لو كان الدور صغيرا وظهوري ضمن مشهد واحد فقط خلال الفيلم لكنه جاء مهما وكان له تأثير على باقي الأحداث ويفسر ما حدث من قبل، وأؤمن أن العبرة ليست بأداء دور البطولة، لكن أن تترك بصمة وأثراً، كما أن أحد العناصر المهمة لنجاح الفيلم هو تحقيق اللحُمة بين كل الشخصيات الموجودة بالفيلم.

واتفق طاقم العمل على عدم وجود دور كبير وآخر صغير، فهناك دور يترك بصمة وآخر يمر مرور الكرام، وأهم شيء في فيلم “غدوة” أنه بدا مشروعا بمعنى الكلمة، وثمة التفاف حوله من كل المشاركين فيه، لأن ظافر العابدين في طريقة تعامله مع الممثلين وفريق العمل وحديثه عن المشروع جعل الكل يحبون الدخول في التجربة.

ولم يتعامل الجميع مع الفيلم على أنه تصوير أو مجرد عمل سينمائي، بل أكثر من ذلك، فهو مغامرة وجنون، وكانت المشاركة فيه بالنسبة إلى طاقم العمل نوعا من الجنون الجميل، ولم يشعروا بوجود حدود بين الجانب التقني والممثلين.

13