فنان سوري يشكل بالمربعات جغرافيا غير مُستقرة

عرف الفن الإسلامي بانسيابيته وارتكازه على حركات هندسية وخطية مدروسة تمزج في عمقها بين الدقة الرياضية وتلقائية الحركة، وهو ما اشتغل عليه الفنان السوري مطيع مراد مازجا روح الفن الإسلامية بمتتالية فيبوناتشي الرقمية ليشكل عالما من الأشكال الهندسية التي لا تحمل موضوعا في ظاهرها
بيروت – قدّمت صالة “أيام” بالعاصمة اللبنانية بيروت من خلال معرض للفنان التشكيلي السوري مطيع مراد بعنوان “عتبات”، عددا قليلا من الأعمال المشغولة بمادة الأكريليك، لكنها كبيرة الحجم ومُنتقاة من مجموعة سبق أن قدّمها الفنان بصالة “أيام” في دبي سنة 2016.
لم يقدّم أو يؤخّر انتقاء المجموعة التي عرضت مؤخرا بصالة “أيام” البيروتية للفنان السوري مطيع مراد أي رؤية جديدة عن أعماله السابقة، تستحق أن يُقام لها معرض فردي تحت عنوان “عتبات”، وقد يعود السبب خلف تقديم هذه الأعمال المُستعادة في الصالة الفنية إلى دخول بيروت موسم الصيف الذي تقلّ فيه المعارض التشكيلية وأحيانا تنعدم تماما.
ربما نجد في لحظة دخولنا إلى الصالة خاصية واحدة تجمع بين معظم اللوحات وهي أن اللون الوردي يطغى عليها ما أعطى انطباعا عاما بأنّ الأعمال جديدة، لون استطاع أن يعلن عن هدوئه بالرغم من انسياب مدروس ومحسوب جيدا لشبكة من الخطوط السوداء، التي عوّدنا مراد على رسمها فوق تدرجات اللون.
ومن المعروف عن مطيع مراد أنه انتقل نقلة فجئية سنة 2007 من ممارسته للفن التعبيري الذي اتسم بالتزامه بتظهير مشاكل اجتماعية إلى فن متحرّر من المواضيع “الأرضية” المُباشرة، نحو تجريد متوتر ومُتزن في الآن ذاته، قد شدّ أواصره بشبكات خطوط داكنة اللون، معظمها سوداء، اجتاحت كامل لوحاته في تضاد حينا وانسجام حينا آخر.
وذكر الفنان أنه بنى عالمه الجديد على “متتالية فيبوناتشي الرقمية (نسبة إلى الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي) كنقطة انطلاق للوحاته الكبيرة، أما متتالية فيبوناتشي، فهي نظرية تقوم على إخفاء جزئي للتفاعلات في ما بين المُضلعات والخطوط فتشكل إيهاما بالعمق”.
وخاصية العمق تلك لا يلتقطها الناظر إلى أعماله إلاّ بعد لحظات من التأمل، لحظات من شأنها أن تأخذه إلى وجه التقارب الكبير بين فنه وفن “الأورب” الذي يتميز ببروز أشكال وهمية وثلاثية الأبعاد لتكورات تبدو كأنها فقاعات غير قابلة للنكء ولا للانفصال عن خلفية اللوحات.
الفنان وظف متتالية فيبوناتشي الرقمية كنقطة انطلاق للوحاته، كما وظف خطوط الفن الإسلامي بروحانية أشكالها ورموزها
غير أن معظم أعمال مطيع مراد تبتعد عن فن الأورب لحظة تبنيها فقط لتدرجات الزرقة والخضرة، لتصبح في نسيج الخطوط التي تتخللها أشبه ببرك منعشة تموج حينا ويتكدر سطحها بالنسائم وأشعة الشمس حينا آخر.
المُشاهد غير الضليع في علم الحساب والرياضيات لن يتمكن من تصويب العلاقة بين ما قاله الفنان السوري حول الخلفية الفكرية والعلمية لفنه وما رآه أمامه، سيكتفي “فينومولوجيا” برؤية عالم هندسي بالغ التجريدية وغالبا ما يزوّغ النظر وهو يوحي بأنه يتحرك؛ يمتد ويتوسع ويتقلص إلى الداخل والخارج تحت ناظريه بفعل التوظيف البارع لتقنية فن الخداع البصري القائم على حسابات دقيقة.
أما بالنسبة إلى انطلاقه من الفن الإسلامي وزخارفه الهندسية، فقد يكون مراد قد قطع شوطا طويلا جدا منذ تلك الانطلاقة، لأن نصه الفني على الرغم من جماليته العالية يفتقر في معظمه إلى النكهة الروحانية التي غالبا ما تصبغ الفن الإسلامي بأشكال تصاميم مُتعاظمة ومتضائلة كنمط غرائبي من أنماط صلاة شخصية جدا.
ثمة اختلاف كبير بين العالمين، على الأقل في عين الناظر، ففي حين “يُزنّر” ويزيّح الفنان أعماله بشرائط سوداء مُتمكنة وخبيرة تضجّ وترهق النظر، تتعالى أصداء اللانهائية وصوفية التلاشي من انفتاح الأشكال الأكثر ضيقا في الأعمال الفنية الإسلامية، غير أن ميكانيكية الاستلهام يستحيل أسرها ضمن صيغة معينة وهي تتفاعل في نفس كل فنان بطرق مختلفة ومؤدية لنتائج متنوعة.
وهذا ما يفسر بشكل كبير ولادة أعمال بالغة الاختلاف عن بعضها البعض رغم أنها، وبحسب مبتكرها، انطلقت من مصدر إلهام واحد، قد يكون نصا أدبيا، أو فنيا، أو مشهدا رآه صدفة في طريقه وغير ذلك من اللمعات.
موضوع لوحات مطيع مراد هو اللاموضوع، وليس هذا اللاموضوع تعبيرا عن افتقار الأعمال لأي معنى يستطيع المُتلقي أن يتأمل فيه وأن يتفاعل مع الفنان، فمنذ تحوّله إلى هذا النمط من الفن، أصبح أقرب إلى “السوبريماتيزم”، ولكن بنكهة شرقية محدودة جدا لناحية تجاور الخطوط والأشكال أكثر من طوافها في فراغ مجهول الهوية كما في اللوحات السوبرماتية الشهيرة.
وتلعب المساحة التي يُطلق عليها “بالمساحة السلبية” الدور المصيري في تحقيق الطريقة التي يُبصَر بها العمل، فالخطوط السوداء يمكن رؤيتها كالفراغات أو المساحات السلبية التي تفصل ما بين الخطوط البيضاء التي تمتد في مساحات اللوحات، ويمكن رؤيتها في الآن ذاته على أنها الأساس، وكل ما يُلاصقها من أبيض أو لون هو المساحة السلبية المؤدية إلى ظهورها وظهور مسارها بوضوح كبير.
لأجل ذلك، تبدو المساحة السلبية الأقدر على عقد التواصل ما بين حيزين افتراضيين انشغل بهما الفنان إلى أقصى حد وهما الزمان والمكان، كجغرافيا غير مُستقرة نسجتها خطوط متحوّلة في عين الناظر إليها.
وحتى هذه الساعة، هذا هو عالم الفنان مطيع مراد؛ استقرار في أثير مُلتبس، هادئ يؤمّن له سكينة غريبة تخصه هو وحده.