فنانو العالم يواجهون بالألوان هواجس التصادم والصراع الحضاري

يحمل بينالي القاهرة الدولي للفنون في دورته 13 المنعقدة حاليا أحلاما فنية عريضة كادت تتوقف في ظل غياب البينالي لمدة تسع سنوات، وتشهد التظاهرة التشكيلية الكبرى تنوعا في الرؤى الإبداعية والاتجاهات المعبّرة عن فناني العالم من أجيال مختلفة، ويجتمع المشاركون على عشق الشرق وسحره، وتعزيز التواصل الإنساني، والانتصار للكوكب المختنق المأزوم.
القاهرة – وحده الفن الصادق، الطليعي، التنويري، بإمكانه إزالة الفواصل بين الأزمنة والأمكنة، وإذابة الفوارق بين البشر ليتحدثوا لغة واحدة مشتركة، تفيض بالدفء والحميمية والسلام، ولا مجال فيها للمنافسات والمشاحنات والاختلافات العرقية والجنسية والدينية والمذهبية وغيرها.
على هذا التصوّر الواسع لروح الفن ودوره الجمالي والتهذيبي في ترقية الحواس، يراهن فنانو مصر والعالم المشاركون بأعمالهم في “بينالي القاهرة الدولي الـ13” المنعقد في القاهرة على مدار شهرين حتى العاشر من أغسطس الجاري في ثلاثة مواقع، هي: “قصر الفنون” و”متحف الفن الحديث” بالأوبرا، و”مجمع الفنون” بالزمالك.
اتخذ بينالي القاهرة الدولي 2019 عنوانا دالا هو “نحو الشرق”، في إشارة واضحة إلى أن الدورة الجديدة التي يعود بها البينالي إلى الظهور بعد غياب استمر منذ ديسمبر 2010 هي دورة استثنائية، فهي محطة التوجّه إلى الشرق بعيون منفتحة على الآخر ومعطياته، وأصابع مهيأة للتشابك، وأذرع مستعدة للاحتضان.
والتقت إرادة ثمانين تشكيليا من 52 دولة (منهم سبعة مصريين) على نسف هواجس التصادمية ونظريات الصراع الحضاري الخائبة، وإفساح المجال للإنسانيات الأصيلة الواحدة والخيالات المشتركة، وبدت القوة الناعمة سيدة للمشهد بتعزيزها التفاهم بين الشعوب من خلال الفنون والثقافات، وتقديم حلول فنية وجمالية فكرية لأزمات الإنسان المغترب في فضاءات العولمة والرقمية والتقنيات، والعمل النوعي الجاد على إنقاذ الكوكب من الانهيار والدمار الشامل بفعل الشرور والحماقات، وتقديم المحبة مرسومة بألوان الطيف على طبق من ذهب.
وسجلت التظاهرة القاهرية الكبرى، التي تأسّست دورتها الأولى في عام 1984، حضورا طاغيا للأعمال التجريبية في مجالات الفنون التشكيلية المختلفة من تصوير وفوتوغرافيا ونحت وغرافيك وفيديو وأعمال مركبة ومجسمات وغيرها لمبدعين من سائر القارات، حملت أناملهم أحدث الابتكارات، بما يشكّل إضافة حقيقية إلى الحركة التشكيلية بمصر، وفرصة للاحتكاك المثمر والتفاعل الخلاّق.
رسمت أعمال البينالي، الذي بلغت جوائزه مليون جنيه مصري (أكثر من 60 ألف دولار) معاناة الإنسان المعاصر وهمومه في معترك الحياة بتفاصيلها اليومية الطاحنة وقيمها المادية الاستهلاكية وقضاياها المتفجرة، وانفتحت الأعمال في الوقت ذاته على الموروث الحضاري لاسيما الشرقي والجذور الأصيلة التي تعيد للبشرية كيانها وعنفوانها.
وفي لوحاته، قدّم الفنان اللبناني أيمن بعلبكي (44 عاما) رموزا لأبنية ولشخصيات مجهولة من قادة الصراعات الدائرة، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، وصوّر براميل البارود المتفجرة وقد حملت كلمة النهاية للعالم الذي بات مفكّكا تماما، داكن الألوان، قاتم المشاعر.
ومن خلال تجربته في فنون الوسائط المادية، قدّم المصري أحمد البدري (الحاصل على جائزة البينالي) تكويناته المجسمة المحيلة إلى طواحين الهواء والمواتير ومدافع الحروب والآلات الميكانيكية الضخمة، وغيرها، من شواهد الواقع الخشن الراهن، الذي أفقد الإنسان مشاعره ونبضه الحيوي.
ومن بلجيكا، صوّر الفنان يوريس فان دو مورتل (الحاصل على جائزة النيل الكبرى) تشرذم الأفراد وتشتّتهم المادي والمعنوي، مُبرزا كيف بات الإنسان العصري المُمزّق مجموعة من الأعضاء المتناثرة هنا وهناك، وكيف حالت الأدخنة الكثيفة السوداء دون الرؤية البصرية ورؤية البصيرة.
وفي العمل الثنائي المركّب لكل من جوليا نوينهاوزن وآستريد مينتسه من ألمانيا، امتلأ الفراغ البصري بنثارات ومتعلقات مادية تلخّص استعمالات الإنسان وتحركاته المبرمجة في صندوق حياته الضيق، وعمره القصير الخالي من المفاجآت.
وبدوره، جسّد الفنان السوري محمد حافظ صورة العالم في مرآة وهمية محاطة بإطار سميك، ويبدو الأفق منسدًّا أمام مركبة السير الخالية من الآدميين، والتي لا تقوى في الوقت نفسه على التقدم ولا العودة إلى الوراء.
في عمله التجريبي المبتكر، اقترح الفنان بريجيته كوفانس من النمسا (الحاصل على جائزة البينالي) دوائر نورانية متشابكة أطلقها على الحائط، راصدا ضفاف المتاهة الكونية ودوّامات الإبحار في وجود الحيرة والخلخلة الأبدية والكهارب العمياء.
وفي تكوينه الميكانيكي المركّب، أبرز الفنان يوهانس فوغل من ألمانيا اصطدام أدوات الطعام بالأطباق محدثة صخبا في ظل غياب الأطعمة وسيادة الفوضى والرغبة في الاعتراض، وحنّط الفنان أومار بول من موريتانيا أجنحة الطائر وريشه بعد انحسار الفضاء وحلول الفناء، فيما جسّد المثّال الفرنسي إيمانويل توسور أبنيته الحجرية الخالية من السكّان بعدما تحوّلت إلى أنقاض.
واستطاع بينالي القاهرة الدولي في دورته الثالثة عشرة أن يفتح صفحة جديدة من صفحات الحدث التشكيلي الأبرز في مصر، وأعاد إلى الأذهان حقبا منقضية كانت تستضيف فيها مصر أعمالا أصلية لكبار الفنانين من سائر أرجاء العالم، من أمثال سلفادور دالي وبيكاسو وفان غوخ وغيرهم.