فنانة فلسطينية تسترجع أجساد المدن من المد البحري الأزرق

إيناس ياسين تلاحق الأماكن المختفية من على شاطئ البحر.
الأربعاء 2023/05/03
عدم أزرق يأكل كل شيء

للمكان تأثيره في المبدع سواء كان كاتبا أو فنانا؛ إذ يشكل المكان، وخاصة مكان النشأة والطفولة، مخيلة المبدع، منه يستلهم ومنه ينطلق ليعبر عن رؤاه. في هذا التمشي انطلقت الفنانة الفلسطينية إيناس ياسين من البحر، الذي هيمن على عوالمها.

يشكل البحر في ذاكرة الشعوب التي تعيش بمحاذاته المكان العميق الحافظ لأحلامهم وأوهامهم وذكرياتهم، ليس فقط لأن عيونهم تفتحت عليه فحسب، بل أيضا لأنه على الأقل بمشهده العام لا يتغير ويشرف بصمته الملتبس على التحولات الدراماتيكية التي يشهدها ويعيشها أهله.

وإن أردنا تقريب هذه الفكرة من الإدراك يمكن القول إن الصلة الوجدانية الوثيقة بين البحر وأهل المدن البحرية، لاسيما الشرق أوسطية، هي من أندر الصلات التي تحافظ على سكونها الملطف حتى في عز العواصف البحرية، فكل إنسان في هذه المناطق يقترب من البحر ويرسل النظر إليه بعد ليلة من الأرق أو الخوف الناتج عن القصف الحربي والاشتباكات العنيفة في مدينته. البحر في نظره وبمجرد انسحابه حتى الآفق بسكون غرائبي هو الهامس في فؤاده.

اجتياحات الزرقة

أعمال الفنانة تبدو سوداوية تتلاطم فيها أمواج البحر الزرقاء في الظلام وكأن الحياة غربت عن هذه الأماكن

“سمعت ورأيت وعشت وأعلم ما حدث. لا تخف. كل ما حدث انتهى لأن أمواجي امتصته واحتفظت به لك كي يكون ذكرى يمكن لك استعادتها متى شئت حين تكون مستعدا وبذات الهدوء السحري الذي تشعر به الآن عندما تنظر إلي متعبا ومتصدعا بتجاربك العنيفة”.

هذا ما يمكن قوله في تقديمنا لمعرض الفنانة المتعددة الوسائط إيناس ياسين الذي عنونته بـ”المدن البراقة” في صالة “زاوية” الفلسطينية فرع رام الله. أما تقديم الفنانة فيكون بالإشارة إلى أنها فنانة استخدمت عدة وسائط فنية كالفيديو والفن التشكيلي والرسم، مستعينة أيضا بالخرائط والوثائق التاريخية، والتركيب والتجهيز الفني لتتمكن من الإحاطة بالمواضيع الشائكة والمتشعبة والمتداخلة مع التاريخ والذاكرة والخيال والتوثيق مع التركيز على فلسطين، هذا البلد الجغرافي والافتراضي والواقعي والخيالي في آن واحد الذي تنتمي إليه الفنانة.

تشير صالة “زاوية” الفلسطينية إلى أن المعرض الذي افتتح في التاسع والعشرين من أبريل سيستمر حتى الرابع والعشرين من يونيو القادم ليتمكن أكبر عدد من الناس من الاطلاع على أعمال الفنانة ذات القياس المتوسط والكبير والمشغولة بالأكريليك ومواد مختلفة.

ويوضح البيان الصحفي المرافق للمعرض أن الفنانة “تستلهم أعمالها من فترة السبعينات والثمانينات تمثلت فيها أجواء ساحرة لمدن عربية عززتها الأفلام المصرية الرائجة، وخاصة تلك المشاهد التي صورت على شواطئ الإسكندرية وبيروت. فقد قدمت تلك الأفلام ومشاهدها صورة مثالية لتلك المدن وساهمت في تشكيل الوعي والإدراك الجمعي العربي لها في تلك الفترة.

وتستحضر ياسين تلك الفترة من خلال مقارنة مع فترة لاحقة حلت فيها المباني التجارية والمشاريع الاستثمارية في تلك الأماكن المألوفة، سواء تلك التي احتضنت مشاهد في الأفلام المصرية، أو دور السينما التي عرضت هذه الأفلام.

ويضيف البيان أن أعمالها تتناول “اختفاء تلك الأماكن المألوفة وتحولها إلى أماكن دخيلة ومعتمة وتحاول من خلالها استرجاع ذاكرتها ووعيها الوجداني لمدن وطبيعة أحبتها، إلا أن خللا ما حل بها”.

الحياة وقد غربت

محاولة لإحياء الذكرى
محاولة لإحياء الذكرى

إن هذا الاسترجاع لم يأت بسيطا ومباشرا لأن الفنانة لم تعمد إلى تصوير الخلل الذي أصاب تلك المدن من الناحية الخارجية بقدر ما استرسلت في استنطاق روح وباطن المدن التي تعرضت إلى التحولات المشوهة فكان اجتياح الأزرق البحري، بعد أن غادرته الطمأنينة، بكل تدرجاته في رئات المدن فحدث اختناق شديد البصرية وفيه الكثير من الشاعرية المتشربة بالكآبة، وتكاثرت المشاهد الفانتازية التي من شأنها الإشارة إلى تحلل هويات المدن، التي سبق أن ترسخت في الذاكرة الجماعية، إلى ماء أزرق يحيلنا إلى الحالة المرضية التي تصيب العين والشائعة تسميتها بـ”المياه الزرقاء”، في إشارة إلى ماء تفرزه العين كي تحافظ على هيئتها الكروية.

الحالة المرضية هذه تجعل المصاب بها يرى الأشياء أمامه بشكل غير واضح ومحاطة بهالات زرقاء. وبدوره البيان الصحفي المرافق للمعرض يلفت إلى أن الفنانة إيناس ياسين تعبر بصريا عن هذا الخلل الغرائبي من خلال أعمال تبدو سوداوية معتمة تتلاطم فيها أمواج البحر الزرقاء وحيدة في ظلام دامس، وكأن الحياة غربت عن هذه الأماكن، وتركتها لليل مظلم.

الفنانة لا تصور الخلل الذي أصاب المدن من الناحية الخارجية بقدر ما استرسلت في استنطاق روحها وباطنها

وتشير ياسين إلى أنها حاولت التركيز في سلسلة أعمالها هذه على الأماكن المألوفة وغياب مشاهد الحياة والناس عن الشواطئ وتحولها إلى أماكن طاردة ومعتمة وخاصة في مدن عربية اشتهرت بشواطئها في فترة معينة.

وقد سبق للفنانة أن كانت عرابة لمعرض فني كبير حمل “الزرقة” في صميمه وكان عنوانه “شعب في جوار البحر” تمحور وباختصار شديد حول الفلسطيني الذي يعيش على الخط البحري وعلاقته بالبحر، وقالت الفنانة آنذاك إن “الشاطئ له دلالات تاريخية مهمة بالنسبة إلى سكان المناطق البحرية. إنه المكان الذي هجروا منه والذي سيأتي يوم يعودون فيه إليه”.

يذكر أن إيناس ياسين فنانة وقيمة معارض، وهي مديرة سابقة لمتحف جامعة بيرزيت. وتستخدم ياسين مجموعة متنوعة من الوسائط بما فيها الرسم والتركيب والفيديو والنحت، وكذلك من خلال تدخلات فنية قائمة على البحث، كما توظف القطع والصور في أعمالها الفنية. وتتطرق في أعمالها إلى التحولات الاجتماعية التي طرأت على الثقافة الفلسطينية منذ أواخر الثمانينات.

وتتبع في مشاريعها الأحداث الطارئة في مشهد المدينة المتغير وتراقب التحول في الحياة الاجتماعية في فلسطين، كاشفة عن سياسات وجماليات التحول على المستويين الشخصي والجمعي. وفي مشاريعها التشاركية تدعو المجتمع إلى التفكير في القوى التي غيرت الواقع الاجتماعي.

Thumbnail
14