فلاديمير تماري يغادر ووراءه خطوط ثلاثية الأبعاد

توفي الفنان الفلسطيني فلاديمير تماري في اليابان منذ بضعة أسابيع عن عمر يناهز 75 عاما، رحل غير تارك وراءه إلاّ كل ما أخذه معه أيضا، مجموعة ضخمة من الذكريات الملتفة على بعضها البعض ككرات حرير بيضاء اللون عن وطن اضطر إلى مغادرته سنة 1948 ليعود إليه، افتراضيا، كل مرة فرد فيها أوراقه، أو خرائط ابتكاراته العلمية/الفنية أو حمل آلة التصوير، أو قلمه التخطيطي أو ريشته المغمسة بماء ملون شفاف وباسم.
الجمعة 2017/08/25
ألوان الغنائية المفقودة

بيروت – حول تصميمه جهازا للرسم ثلاثي الأبعاد سنة 1963 في مدينة رام الله، قبل أن يقوم ببناء أول “بروتوتيب”، أي النموذج المبدئي في القدس سنة 1964 ليعود ويبنيه في اليابان سنة 1977، قال الفنان التشكيلي الفلسطيني فلاديمير تماري الذي رحل عن عالمنا في السابع من أغسطس الجاري في العاصمة اليابانية طوكيو أين يقيم، “تخيّل أنك تملك قلما سحريا باستطاعته أن يرسم وهو يشكل خطوطا ثلاثية الأبعاد وكأنها منحوتات من أسلاك معدنية”.

ربما لا ينسحب كلام الفنان على “خياله”، وابتكاره لهذا التصميم فقط بقدر ما يطال كل منجزاته الفنية التي شكلت بمجملها شبكة متناغمة ومتشعبة تلاقت أطرافها في مفاصل عدة، لتبني “بعقدها المعدنية” الثلاثية الأبعاد والتي لا يسهل فكاكها، صرحا فنيا يقيم شكليا للفراغ وزنا، تأثرا ربما بالفن الياباني، لكنه صرح، بالرغم من نكهته اليابانية البيضاء المُعززة لمكانة الصمت، لم تسكنه إلاّ فلسطين، الأرض، والذكرى والحلم المعلّق على أسلاك أو خيطان ناصعة البياض تتلقى نور الشمس فتردّه، ودقيقة دقة الحرير ومتانته.

أضاف فلاديمير تماري حول اختراعه هذا أنه استوحاه واستلهمه مما يسميه “متانة ووضوح الأشياء في نصاعة طبيعة الضوء الطبيعي الذي عرفه في وطنه فلسطين”، قد يبدو كلام الفنان غريبا بعض الشيء، ولكن لنكن على يقين، لا أحد يعرف تماما كيف تتبلور الأشياء ومعانيها وأصداؤها في نفس أي فنان. فما بداخله مصنع سحري، حتى هو، أي الفنان، لا يدري تماما كيف ولماذا يتم خلط مواد مع الأخرى وما ستكون عليه النتيجة، وما هو الثمن الذي سيدفعه لقاء إنجازه لهذا العمل أو ذاك، حتى قبل أن يغدو، لاحقا، إلى كلام عن شهرة الفنان أو إخفاقه أو قدرته على بيع أو عدم بيع أعماله.

لعل فلاديمير تماري هو من الفنانين الذين اشتغل في باطنهم غموض هكذا مصنع، هو من الفنانين الذين تشعبت ممارساتهم الفنية بشكل كبير جدا، لكن لتبقى في مناخ واحد، مناخ ناصع البياض وهادئ يقيم للذهنية حسابا. ربما مرد تلك الذهنية الحسابية هو طبيعة شخصيته الشغوفة بالعلم ودراسته للفيزياء، علم وجد طريقه وبقوة إلى مجموعة من اللوحات المائية التي تخطت السبعين عملا، وهي ربما من أجمل أعماله الفنية، ولربما هي الأشمل، لأن الناظر إليها سيجد فيها كل ما أحبه الفنان وكل ما اشتغل عليه وكل ما حققه في أعمال تصويرية أو تخطيطية، أو كتابية أخرى.

فلاديمير تماري كان صرحا فنيا يقيم شكليا للفراغ وزنا، رحل غير تارك وراءه إلا كل ما أخذه معه

وولد فلاديمير تماري سنة 1942 في القدس، ثم انتقلت أسرته إلى يافا، وهاجرت منها إلى بيروت، هناك تلقى الفنان دروسه في الفن والفيزياء في الجامعة الأميركية في بيروت ما بين 1957 و1961، ثم غادر بيروت لكي يكمل دراسته الفنية في لندن، سنحت له فرصة أن يدرس الخطوط العربية الكلاسيكية التي كتبت بها نسخ القرآن الكريم، بعد تلك الدراسة اخترع وسجل باسمه تصميما لحرف عربي طباعي أسماه “القدس”، اسم مدينته الفلسطينية العريقة.

سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وتعرف على كيوكيو ليتزوجها إثر عودته إلى لبنان، حيث قدم لأول مرة أعماله الفنية، وفي بيروت أيضا اشتغل في عدد من مدارس وكالة غوث لتشغيل اللاجئين كرسام إيضاحي للنصوص، كما أخرج أفلاما عن حياة الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين، وشارك في إخراج فيلم وثائقي عن القدس سنة 1967، كما ساهم في إخراج كتاب مصور عن مجزرة صبرا وشاتيلا، وشارك في إعداد كتاب “رسوم الأطفال في زمن الحرب”، ومن أشهر أعماله آنذاك تصميمه لشعار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أنجزه في بيروت عام 1969 بالاتفاق مع الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني.

وفي عام 1970 غادر مدينة بيروت متوجها إلى مدينة طوكيو، حيث عاش حتى يوم رحيله، وهناك عمل محاضرا في أكاديميات طوكيو ومارس حياته الفنية والعلمية فبرع في كليهما، وكانت له اختراعات في المجالين.

تقول الكاتبة السويدية إيلين كاي “كلما اشتدت وحشية العالم أصبح الفن تجريديا”، قول ينطبق تماما على لوحات تماري المائية، ربما هي أجمل ما قدمه.

في حين كانت لوحاته التي عرضها في بيروت لوحات واقعية تغلب عليها العتمة، باتت مع تقدم زمن الخيبة والشعور بحتمية المنفى أكثر فأكثر تجريدية، وصارت الألوان الرائعة التي استخدمها هي الغنائية، أو “الفردوسية” المفقودة حتى إشعار آخر، ولكن الفنان رحل قبل أي “إشعار آخر” مرجوّ ومنتظر لأي عودة كانت إلى فلسطين.

فلاديمير تماري، هو لوحاته المائية الملونة بالتجريد، تجريد محمل برموز استقى الكثير من مفرداتها من التراث الفلسطيني، وبالرغم من غزارة الألوان التي استخدمها بشاعرية كبيرة، فثمة هدوء وسكينة يرشحان منها، وبالرغم من الحزن الذي يسكن بعض آفاقها إلاّ أنه حزن من النوع “الياباني”، إذا صح التعبير، إذ يغلب عليه حس القبول بالقدر، وقدر لوحات الفنان هو أن تعصف بها شفافية لونية مؤثرة، ولكن شرط أن تحافظ على رباطة جأشها بحسابية وذهنية صارمتين تمنعان الانجرافات والسيول، وتبقى فلسطين تشفّ من وراء ستائر ألوانه المائية معلنة سكنه الدائم في وطنه البديل، وهو الفن.

17