"فضاء الما بين" انبعاث هادئ من ضجيج لوحات إدغار مازجي

الرمادي سيد الألوان يسرد قصص الفنان البصرية.
الأربعاء 2023/10/04
أسلوب فني هجين

نادرا ما يحب الناس اللون الرمادي، فهو لون الضبابية وعدم الوضوح، وحده الفنان التشكيلي اللبناني إدغار مازجي يعتمده لونا أساسيا في لوحاته، يعبر من خلاله عن مواضيع ومشاعر وأفكار متوزعة بين التقابل والتنافر والتكامل ما بين التجريدي والتشكيلي.

الرمادي لون غير محبوب عند الكثير من الفنانين التشكيليين. وهو عند آخرين من الفنانين مُستهتر به ولا يصنف كلون أساسي إلا إذا اكتسى الظل كلباس له. ويمكن أن أضيف هنا أن اللون الرمادي لطالما كان بالنسبة إليّ الامتعاض وقد تجسد بأقصى قوته. وربما تُردّ المرارة الباردة التي يتجلى بها إلى كونه أشبه بأضغاث ألوان مُجتمعة لم نعرفها يوما في الواقع وارتأت أن تبقى في اختلاطها مع بعضها البعض أن تكون حجابا ما بيننا وبينها طالما نحن على قيد هذه الحياة الأولى.

هل ينسحب أيّ من هذا الكلام على الفنان التشكيلي اللبناني إدغار مازجي صاحب لوحات ضجّت بألوان الأرض وبمختلف تدرجاتها؟ لا. البتّة. سيشاهد متذوقو الفن في معرضه الجديد المُقام في صالة “أرت أو 56 ستريت” تحت عنوان “فضاء الما بين” كيف يكون الرمادي لونا قائما بذاته وقادرا على أن يبث في نفس المُشاهد مراوحة واسعة من المشاعر والأفكار.

يذكر البيان المرافق للمعرض أن ما يقدمه الفنان اللبناني “هو بمثابة رحلة استكشاف في الفضاء أو المساحة التي تقع ما بين التشكيل والتجريد. يشكل هذا المعرض أيضا حالة عودة إلى جذور الفن واختبار العلاقة ما بين المساحات اللونية التجريدية والشخوص المرسومة وفعل التنقل بينهما وعبرهما على السواء”.

ما يقدمه الفنان اللبناني هو بمثابة رحلة استكشاف في الفضاء أو المساحة التي تقع ما بين التشكيل والتجريد

ويضيف البيان “لا تقتصر تجربة إدغار مازجي الفنية على هذا المستوى فهو إضافة إلى دخوله عالم التقابل والتنافر والتكامل ما بين التجريدي والتشكيلي يقيم الفنان جدلا بصريا ما بين الموضوعي والشخصي، والتخطيط والارتجال. أما أسلوبه ‘الهجين’ الذي يعتمد على المزج ما بين التشكيلي والتجريدي، والذي يعتبره الفنان من أهم ما يرغب في الاحتفاظ به والعمل على بلورته في معارضه التالية، فهو على الأرجح السبب الرئيسي خلف حيوية المشاهد التي يقدمها”.

يجدر الذكر أن عالم الفنان التشكيلي إدغار يازجي المولود في بيروت سنة 1955 لطالما كان مشغولا بالتعبير الفني من خلال النسيج البصري الذي لم يظهر يوما إلا ومخاطبا جمهوره من خلال التجريد والتشكيل في لوحة واحدة. وهذا إضافة إلى كون لوحاته السابقة والحاضرة تكتنز التأثر بعدة تيارات فنية معروفة منها التكعيبية والتعبيرية والغنائية والرمزية والانطباعية وحتى السوريالية في بعض الآحيان.

والمميز بأعماله أنه من الشاق أن يستطيع المُشاهد أن يفصل عند رؤيته للوحة من لوحاته (إلا نادرا) ما بين ظهور لتأثر بتيار فني على حساب تيار فني آخر وذلك لشدة انصياع التيارات الفنية لبعضها البعض في تشكيل لوحة متكاملة غنية بالعناصر البصرية والفكرية وتحمل بصمة وإمضاء الفنان دون غيره من الفنانين.

تعبير بلوحات مشبعة بالرمادي
تعبير بلوحات مشبعة بالرمادي

ومما ذكره البيان الصحفي الآلية التي يعتمدها الفنان في تشكيل لوحاته وهي أن إدغار مازجي “يبدأ لوحته تجريديا أي عبر ارتجال لونيّ/شكليّ لكيفية ظهور اللوحة عندما تشارف على شبه اكتمالها بعدئذ تبدأ الشخوص والأشياء والمشاهد بالانبعاث من رحم الألوان

والهيئات التجريدية”. أحيانا ينتصر التجريد في لوحات الفنان، ولكن دوما يحضر فيها على الأقل بضع نفحات تؤكد أن أحدا ما أو شيئا ما يتحرك في طيات التجريد الفني المهيمن على اللوحة.

لم يحد الفنان في معرضه الجديد “فضاء الما بين” عن خاصية السرد. ولازال مُشاهد أعماله يستطيع أن يؤلف الحكايات مما يقدم له الفنان من عناصر بصرية. وقد قدم الفنان سابقا معرضا في الصالة ذاتها بعنوان “قصص غير محكية” حيث كانت معظم اللوحات لا تقوم فقط بمهمة سرد فصل من قصة مّا فرضت نفسها على خياله وريشته، طالبة منه أن يحقق وجودها، بل بدت غير مُستقرة وعرضة للتبدل تحت نظر المُشاهد. اللوحات أوحت للمُشاهد بأنها غير مُكتملة وقابلة للاكتمال أو حتى التحول إلى عكس ما هي عليه إذا ما عاد إليها الفنان، متناولا ألوانه وريشته من جديد.

برزت الشخوص في تلك اللوحات وهي تموج شخصيات ما بين الخيال والحقيقة وما بين البوح والكتمان لتبقى سيدة مصائرها. تماما كما برزت شخوص لوحاته الجديدة في التباس الخيال والحقيقة، التحقق والتلاشي على السواء.

لازال الفنان في معرضه الجديد يخطط مُسبقا لما كان يريد أن يرسمه قبل أن يدع الألوان والأشكال البادية في نظره وخياله أن تأخذه إلى تأليف سردي له أبطاله وحوادثه المنقوصة غير التامة دوما. يعمد إلى وضع مسحة أو ضربة لون ويدعها “تسيّره” نحو تكوين الشخصيات وبناء القصة التي تنساب هذه الشخصيات في فضائها دون معالم شكلية وبلا نهاية محددة، كما كل نص فني يوحي ويشير، ولا يتبنى خطابا مباشرا.

Thumbnail

هذه الخاصية في أعماله برزت أيضا في معرض آخر عنونه بـ”فُقد ثم وُجد”، حيث بدا الشعور بالفقد هو المُحرك الأساسي في لوحاته، ولكنه شعور رضخ تحت سيطرة الفنان العاطفية فرسمها بغبش الرؤيا وغموض النهايات والبدايات على حد سواء، لذلك ربما انتشر في جميع لوحاته جوّ من السلام وضم حتى تلك المُلتحفة بحزن شفاف.

ومجموعة لوحاته الجديدة التي يعرضها اليوم تحت عنوان “فضاء الما بين” (أي ما بين التشكيل والتجريد) هي سليلة تلك الأعمال السابقة. وقد أدخل إليها الفنان بُعدا دراميا يغلبه حزن رقيق يتسم بالشفافية وبالتالي بالهشاشة والقابلية الشديدة للاندثار. أما كيف برز هذا البُعد في أعماله فمن خلال استخدامه للون الرمادي وظلاله

وتدرجاته وسقمه البادي في أصفر نود أن نصفه بـ”النحيل”، إذا جاز التعبير.

وكما ذكرنا في مطلع المقال، أخذنا الفنان إلى كيف يكون الرمادي لونا قائما بذاته وقادرا على أن يبث في نفس المُشاهد مراوحة واسعة من المشاعر والأفكار. ونلحق بهذا القول قولا مُتمما قائلين: جُلّ ما أنجزه الفنان إدغار يازجي في معرضه هذا هو أنه نجح في أن يكون تعبيريا وغنائيا في لوحات مُشبعة بالرمادي الذي رفعه الفنان إلى مقام ووقع الألوان الأخرى.

يُذكر أن الفنان إدغار يازجي نال دبلوما في هندسة النسيج في ليون (1978)، وشهادة تفوق في الرسم في معهد نيويورك للرسم والنحت (1998)، عاد إلى لبنان عام 1999، وكرس نفسه للرسم. أقام معارض فردية عديدة في بيروت لاسيما في صالة آرت أون 56 ستريت”. وشارك في معارض جماعية في العالم. نذكر من الدول قطر، أيرلندا، الولايات المتحدة، دبي. شارك في صالون الخريف في متحف سرسق منذ 2003. ويدرّس الرسم منذ 2009 في الجامعة اللبنانية -الأميركية وجامعة القدس يوسف في بيروت.

Thumbnail
Thumbnail
14