فشل التنمية الجهوية في تونس يعمق الفجوة الاجتماعية

تلكؤ الإصلاحات وغياب العدالة يرفعان وتيرة الاحتجاجات ويدفعان نحو مزيد الاحتقان.
الجمعة 2020/12/11
الفقراء من يدفعون الضريبة الأغلى

منيت كل مخططات الحكومات التونسية المتعاقبة لتنمية المحافظات الداخلية بالفشل نظرا لغياب الإرادة السياسية والجهود اللازمة لتوفير فرص عمل وبناء المشاريع، فضلا عن البيروقراطية التي عرقلت الآلاف من المشاريع ما حال دون إرساء قواعد العدالة الاجتماعية وفجر الاحتجاجات الشعبية التي لم توقف جائحة كورونا من تصاعدها.

تونس - لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من تفكيك التفاوت والفجوة بين المحافظات حيث بقيت العديد من الجهات في أرياف تونس ومدنها الداخلية تصارع البطالة والفقر، ما دفعها إلى الاحتجاج في ظل وضع اقتصادي مأزوم وتجاذبات سياسية عرقلت كل جهود تنمية الجهات في وقت تصادق فيه الحكومة على قانون موازنة لم يحمل أي مؤشرات أمل للطبقات الهشة.

صادق البرلمان التونسي، فجر الخميس، على مشروع موازنة حجمها 19.4 مليار للعام 2021 ولم تحمل هذه الموازنة أي مؤشرات اجتماعية، حيث تم إسقاط العديد من المشاريع الرامية إلى مساعدة الطبقات الهشة مثل فصل يتعلق بطرح ديون المزارعين وإعفاء ضريبي عند شراء أول سيارة وتقديم منحة لفاقدي الوظائف بسبب الوباء، ما خلف جدلا واسعا داخل الأوساط الشعبية.

ووفقا للتقرير الشهري حول الاحتجاجات الجماعية والانتحار والعنف والهجرة الذي أعده المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تنامت طيلة الأشهر الماضية الاحتجاجات الشعبية حيث بلغ عدد الاحتجاجات خلال نوفمبر الماضي نحو 1025 تحركا احتجاجيا، مسجلا بذلك زيادة في حدود 6.17 في المئة مقارنة باحتجاجات شهر أكتوبر، 85.2 في المئة منها احتجاجات عشوائية وغير منظمة.

وتغیرت الخارطة الاحتجاجیة طیلة شھر نوفمبر لیصبح إقلیم الجنوب (شرقا وغربا) الأكثر احتجاجا بتسجیله 504 تحركات احتجاجية، أي ما یناھز 49 في المئة من مجموع احتجاجات شھر نوفمبر، ومثلت الاحتجاجات العشوائیة في الإقلیمین (محافظات قابس ومدنین وتطاوین وقبلي وتوزر وقفصة) نسبة 92 في المئة من مجموع الاحتجاجات المسجلة في ھذه المناطق. والاحتجاجات العشوائیة ھي احتجاجات تنزع نحو العنف.

حسين الديماسي: إذا لم يتغير الوضع السياسي ستحدث انتفاضة شعبية أخرى
حسين الديماسي: إذا لم يتغير الوضع السياسي ستحدث انتفاضة شعبية أخرى

ويجمع خبراء الاقتصاد في تونس على أنّ انهيار الوضع الاقتصادي وتأزمه إلى درجات غير مسبوقة، يعزى إلى فشل المنوال التنموي المتبع منذ مطلع السبعينات٬ والقائم على استقطاب الصناعات التصديرية الأجنبية.

واعتبر الخبير الاقتصادي ووزير المالية السابق، حسين الديماسي “أن السبب الرئيسي في ذلك هو سياسي بالأساس، حيث أن النظام السياسي والقانون الانتخابي أظهرا عدم توافق مع الواقع الاجتماعي”.

وأضاف في تصريح لـ”العرب”، “انتخابات الفواضل هي من أفرزت هذا الواقع، ولا توجد أغلبية تملك الجرأة للإصلاح، بل خرجت علينا حكومات ضعيفة تفتقر لحزام سياسي قوي، ما يخلق ارتباكا على الحياة العامة وخصوصا منها الاقتصادية”.

وتفتقر الحكومات المتعاقبة إلى استراتيجية واضحة المعالم والأهداف، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل الجهات والأقاليم وترسي منوالا تنمويا يقطع مع التمييز السلبي ويولي التشغيل والمشاريع التنموية الأولوية القصوى.

وأشار الديماسي إلى “أنه إذا لم يتم تغيير الواقع السياسي يمكن أن تحدث انتفاضة شعبية أخرى، والسبب أن الحكومات لا تملك الكفاءات بل تتخبط في ضعفها، فضلا عن وعود الأحزاب التي تعطي الناس أوهاما دون تحقيق ما خلف تراكمات عدة على امتداد 10 سنوات وجعل المسائل تتعقد أكثر، فضلا عن العجز السياسي واستشراء الفساد في المؤسسات وهياكل الدولة”.

ودأب التونسيون على متابعة التوجيهات الحكومية للاهتمام بالتنمية في الولايات (المحافظات) منذ ثورة 14 يناير إلى الآن، لكن دون أن تُفرز هذه التوجيهات نتائج ملموسة على أرض الواقع.

ويرى الخبير الاقتصادي صادق جبنون في تصريح لـ”العرب”، “أن ما وقع في 2011 هو ثورة سياسية كانت نتاجا لحراك اجتماعي وقطيعة سياسية لم تغير المنوال الاقتصادي الذي يعتمد على يد عاملة رخيصة”.

وأضاف جبنون “الجدل السياسي أخذ كل الوقت على حساب إعادة البناء الاقتصادي وإبقاء الميزانيات التوسعية والمقاربة الجديدة للاقتصاد. وهذا الغياب أدى إلى الفشل في بناء منوال تنموي متوازن”.

وأشار الخبير الاقتصادي إلى ضرورة إرساء الاستقرار السياسي لبناء الاقتصاد ثم التعافي شيئا فشيئا. المطالب القطاعية طالبت بالعديد من التحسينات على حساب المطالب الرئيسية، والحكومات غرقت ولم تتمكن من إيجاد الحلول اللازمة.

وتعد العدالة التنموية والاجتماعية والتوزيع المتساوي للثروة بين الجهات مسؤولية صعبة للحكومة الحالية كما هو الحال للحكومات السابقة، ما يتطلب دفع عجلة الاستثمار والبحث عن فرص عمل جديدة للعاطلين والمهمشين، لكن غياب ضمانات للاستثمار المربح للمستثمرين يعيق تفعيل مبدأ التمييز الإيجابي، لأن الاستثمار لا يمكن أن يتحقق بالنوايا الحسنة فقط وإنما بتوفير مناخات فعلية وأساسا البنية التحتية الجاهزة لاستيعابه.

صادق جبنون: الحكومة لم تجد حلولا للعديد من المطالب القطاعية الاجتماعية
صادق جبنون: الحكومة لم تجد حلولا للعديد من المطالب القطاعية الاجتماعية

ويرتبط الاستثمار أساسا بالاستقرار السياسي والاجتماعي، وهو أمر مفقود حاليا باعتبار التوتر الدائم في المشهد السياسي والضغط الاجتماعي الذي يمليه الكمّ الهائل من المعطلين عن العمل وانحسار السوق في مجموعة من الخدمات التي لا توفر فائض قيمة حقيقيا للتنمية.

ويكتسي ملف التنمية الجهوية في تونس أهمية بالغة، لكنه ظل مجرد خطاب تردده الطبقة السياسية وفي مقدمتها الحكومات المتعاقبة على امتداد 10 سنوات، ويرى مراقبون أن المنوال التنموي مسألة لا يمكن حلحلتها إلا بخيارات استراتيجية يقع تحديدها والاتفاق عليها مسبقا.

وتطالب أوساط سياسية بضرورة مراجعة مشروع مجلة الاستثمار الجديد، باعتبار أنه يرتكز على نفس المقاربة الفاشلة لبداية السبعينات فضلا عن كونه يشكل خطرا على مقومات الأمن القومي الاقتصادى التونسي.

وبلغ مستوى العجز الاقتصادي مداه من خلال عجز الحكومة عن توفیر موارد مالیة لتمویل قانون المالیة التكمیلي لسنة 2020 ومیزانیة 2021، بالإضافة إلى استمراریة تداعیات أزمة جائحة كورونا.

 ووفقا للأرقام الرسمیة المنشورة من قبل المعھد الوطني للإحصاء، بلغت نسبة النمو خلال الثلاثیة الثانیة من العام الجاري 6.21 في المئة جراء الحجر الصحي الشامل و6 في المئة خلال الثلاثي الثالث رغم عودة نسق النشاط الاقتصادي، ورغم تراجع معدل البطالة بحوالي 8.2 في المئة في مقارنة بین الثلاثیتین الثانیة والثالثة.

ولم ينتج اقتصاد ما بعد الحجر الصحي الشامل  فرص عمل جدیدة أو عودة قویة لأنشطة الإنتاج مثلما ھو حال القطاع السیاحي الذي خسر خلال الثلاثي الثالث 7.42 في المئة من مداخیله.

وتعاقبت على تونس 9 حكومات منذ 14 يناير 2011 جلها تنتمي إلى أحزاب سياسية باستثناء مهدي جمعة والحبيب الصيد وهشام المشيشي.

وعلى رغم إطلاق كل حكومة بمجرد تنصيبها وعودا بمحاربة الفقر، لا يبدي التونسيون ثقة في جدية الخطط الحكومية ويصنفونها في إطار التصريحات الشعبوية لإخماد غضب الشارع وتوجسا من رقعة الاحتجاجات المناهضة لأدائها. في حين يلاحظ الخبراء أن اعتماد تونس على ذات المنوال التنموي الذي كان من أبرز أسباب ثورة يناير، من منابع الخلل الحقيقية.

ويجمع خبراء ومتابعون للشأن التونسي على أن ثورة 14 يناير “غير مكتملة” في ظل استمرار التهميش والصعوبات الاقتصادية وعدم تخطيط سياسة اجتماعية ناجعة في مواجهة الاستشراء المقلق للفقر وعدم الإصغاء إلى مطالب سكان المناطق الداخلية المستائين من حرمانهم المستمر من نصيبهم في التنمية وحقهم في العمل.

11