فرنسا تركيا.. صراع نفوذ مدمر يلف حول الجزائر

يتجه الضرب تحت الحزام بين تركيا وفرنسا لأن يأخذ من الجزائر ساحة له، خاصة في ظل التوتر وعدم الاستقرار السياسي الذي يسودها منذ انطلاق احتجاجات الحراك الشعبي، حيث يسعى كل طرف لاستغلال حالات العتب أو الفتور المسجلة بين الفينة والأخرى، وتحويلها إلى فرصة لاجتثاث حظوظ الخصم في بلد يراد له أن يبقى تابعا أو قلعة خلفية لمعركة نفوذ عابرة للحدود.
وحملت أحداث مستجدة بالجزائر في الآونة الأخيرة، لمسات تصفية حسابات بين أنقرة وباريس عبر أذرع موالية لها، فاللقاءات التي جمعت قيادات في حركة رشاد المعارضة مع مسؤولين أتراك في أنقرة، أعيدت إثارتها في الجزائر رغم مرور شهور على كشفها من طرف دوائر إعلامية دولية، بشكل يدفع لترقب أزمة دبلوماسية بين السلطات في البلدين.
وفي المقابل يجري الترويج لعلاقات وصفت بـ“المشبوهة والإجرامية”، بين جمعية ثقافية تنشط في ضاحية باب الواد بالعاصمة، وبين سفارات غربية وأميركية، بغرض التحريض على الاحتجاجات الشعبية وتأليب الشارع ضد السلطة، وتعززت الرواية بتقارير تتحدث عن تمويل مالي تلقته الجمعية المذكورة من طرف سفارة دولة كبرى، لم تتم تسميتها لكن التلميحات ذهبت إلى فرنسا.
ورغم أن الجمعية تنشط في المجال الخيري والتطوعي، وتملك حسابا بنكيا لا يمكن أن تحوزه إلا إذا دعمته بوثائق الاعتماد من طرف السلطات المختصة، وتتواجد منذ نحو عشر سنوات، فإن إثارة الملف بالشكل المريب يعطي الانطباع بأن المسألة جاءت في قالب رد فعل، وأن الأمر صار فعلا ردّ فعل وتفجير لغم مقابل لغم، في إطار صراع قوتين إقليميتين تريدان الاستثمار في ماضيهما التاريخي وذاكرتهما المشتركة مع بلد مأزوم.
وإذا كانت قصة الفرنسيين واضحة ومفهومة مع مستعمرتهم القديمة منذ خروجهم منها في يوليو 1962، فهم لم يفرطوا فيها منذ ذلك الوقت وتسعى الحكومات التي تعاقبت على قصر الاليزيه على إبقائها تحت نفوذها التاريخي، فإن العودة التركية للجزائر حديثة العهد في إطار تصدير الأيديولوجيا الأردوغانية وإحياء أمجاد العثمانيين، ويبقى التاريخ والذاكرة المشتركة أسلم ممر للأتراك في زحزحة نفوذ الفرنسيين من الجزائر، والنفخ في رماد بارد (1500 – 1830).
ويتجلى صراع النفوذ الفرنسي – التركي في الجزائر من خلال البوابة الاقتصادية والتجارية، فبعدما اختطف الصينيون ريادة الشريك الأول خلال العقد الأخير، فإن الطرفين يتناوبان على تريب الشريك الثاني مع الجزائر، فمرة تميل الكفة لباريس ومرة أخرى لصالح أنقرة.
ووجدت الدعاية التركية في المناكفات الجزائرية – الفرنسية خاصة فيما يتعلق بملف التاريخ والذاكرة المشتركة، مطية لاستمالة الرأي العام الجزائري من خلال حملات موجهة ومستمرة حول الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر، والسعي في كل مطبّ لأن تكون بديلا وملاذا للجزائر، رغم ما للمسألة من حسابات دقيقة، أبرزها تواجد نحو ستة ملايين جزائري على الأراضي الفرنسية، بما يمثلونه من ثقل وعبء على باريس وعلى الجزائر معا.

وإذا كانت فرنسا قد حسمت نفوذها في الجزائر منذ عقود، عبر ما يسمى بـ“حزب فرنسا”، وهو لوبي موال لها ومتغلغل في الإدارة والمؤسسات والإعلام والمصارف، وكان له القرار الحاسم في العديد من القرارات والمحطات الحاسمة في الجزائر المستقلة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هو على ماذا تراهن تركيا لكي تخوض معركة مزاحمة نفوذ باريس؟
خلال السنوات الأخيرة كانت الأذرع التركية في الجزائر تتمثل في مجموعة أحزاب إخوانية وجمعيات إسلامية وبعض وسائل الإعلام، ومؤسسات تركية في البناء والإنشاءات نسجت شبكة علاقات لكنها لم ترق إلى مستوى النفوذ الفرنسي الذي يملك نحو 400 مؤسسة عاملة في الجزائر، ومنها ما كان على وشك الإفلاس، لكنها استعادت عافيتها بفضل الاستثمارات الحكومية الجزائرية، على غرار الشركة المسيرة لمترو الأنفاق والمطار والمياه.
ويبدو أن أنقرة التي راهنت على أذرعها الإخوانية في ذروة الربيع العربي لمسك مقاليد السلطة في الجزائر، قد راجعت سياستها بإرساء علاقات متينة مع السلطات الجزائرية، بعدما خاب أملها في أذرعها السياسية، وهو ما تجلّى من خلال تقارب أمني واستخباراتي سجل خلال الأشهر الماضية، حيث استعادت الجزائر العام الماضي الضابط الفار الى تركيا قرميط بونويرة، الذي كان يوصف بـ”العلبة السوداء” لقائد الجيش الراحل الجنرال أحمد قايد صالح، كما استعادت تركيا من الجزائر مسؤولا وصف بـ“المهم”، من تنظيم فتح الله غولن، كان يقيم في الجزائر ويشغل منصب مدير في شركة استثمارية.
وأوحى هذا التقارب إلى أن تركيا مستعدة لفتح جسور التعاون الشامل مع الجزائر، فيما تتحفظ السلطات الفرنسية إلى حد الآن على تفعيل اتفاقية تبادل المطلوبين لأسباب سياسية، فرغم توجيه الجزائر لتهم الإرهاب وتهديد أمن البلاد واستقرارها لناشطين معارضين يقيمون في فرنسا إلا أن باريس لم تحقق رغبة شريكتها التاريخية، وحتى الأشخاص الضالعون في ملفات فساد لا زالوا يحظون بحمايتها، وهم الورقة التي تريد تركيا لعبها لتعميق الهوة والشكوك بين الجزائر وباريس لتحل محلها في المقابل.
وكان السفير الجزائري في تركيا مراد عجابي، أول المتحركين ضد إثارة رواية لقاء قيادة من حركة رشاد ومسؤولين أتراك مجددا، بإصدار بيان يشيد بـ“العلاقات المتينة بين البلدين والتعاون المشترك، والاستثمارات التركية في الجزائر”، وأعقبه بيان سفارة تركيا بالجزائر، نفى فيه أي “تدخل تركي في الشؤون السياسية الداخلية للجزائر”، وهو أمر يعطي الانطباع بأن أنقرة باتت أقوى وأكثر اطمئنانا على مصالحها في الجزائر، وليس بعيدا أن تكون قد أرست قواعد “لوبيينغ” ينافس اللوبي التقليدي لفرنسا.
لكن في المقابل تتصاعد المخاوف في الجزائر من إدارة صراع نفوذ إقليمي، قد يصبح بمرور الوقت على شاكلة الولاءات التي فجّرت دولا برمتها كما هو الشأن في ليبيا وسوريا، في ظل حرص كل طرف على الاستقواء بأذرع داخلية وليس بعيدا أن يتكفل هؤلاء بإدارة لعبة الاستقطاب بالنيابة عن باريس وأنقرة، وهو ما تجلى في بادئ الأمر بسجال بين الفرانكفونيين وإسلاميين ومحافظين على شبكات التواصل الاجتماعي وقد يصبح أكثر عمقا وحدّة في المستقبل في ظل هشاشة النظام القائم والأزمة السياسية التي تتخبط فيها البلاد.