فرق كبير بين صوفيي الموالد وصوفية ابن عربي

تحولت ندوة أريد لها في الأصل أن تكون احتفاء بابن عربي ودعمًا للتسامح في مواجهة العنف، إلى ما يشبه محاكمة للتصوف، باعتباره أصولية بديلة، لا تصلح لمواجهة الجماعات الظلامية والتيارات المتشددة في عصرنا الراهن.
الندوة، أقامتها وزارة الثقافة المصرية، ممثلة بـ”المركز القومي للترجمة”، مساء الخميس، بقاعة طه حسين بمقر المركز، لمناقشة كتاب “الفلسفة الصوفية عند محيي الدين ابن عربي”، الصادر عن المركز، من تأليف أبوالعلا عفيفي، وترجمة وتقديم مصطفى لبيب عبدالغني.
شارك في الندوة الدكتور أنور مغيث رئيس المركز القومي للترجمة، والباحثان المتخصصان في التصوف هالة فؤاد وحسام نايل، وخرجت الندوة عن الخط المحدد لها، إذ لم تتعرض بالتحليل المعمق لكتاب أبوالعلا عفيفي، كما لم تذهب مثل ندوات مشابهة إلى الاحتفاء المجاني برموز التصوف، وعلى رأسهم ابن عربي، وتصديرهم كنموذج للتجديد الديني “أحد المطالب الرسمية بمصر”، وكحائط صد قادر على مقاومة الإرهاب.
أصولية التصوف
كتاب “الفلسفة الصوفية عند محيي الدين ابن عربي”، لأبوالعلا عفيفي، دراسة علمية كتبها بالإنكليزية، تشرح مذهب ابن عربي، وخلاصة آرائه في الوجود والمعرفة والنفس، ورؤيته لجوهر الدين والحب الإلهي. ومؤلفه أبوالعلا عفيفي (1897-1966)، عالم مختص بالفلسفة الإسلامية، تخرج في دار العلوم، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كمبردج البريطانية عام 1930 بأطروحته عن “فلسفة ابن عربي الصوفية”، ثم عمل مدرسًا للفلسفة بجامعتي القاهرة والإسكندرية.
لم يكن “الشيخ الأكبر” وصاحب “الطريقة الأكبرية” محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي (1164م-1240م)، مجرد ضيف يُحتفى به في ندوة “القومي للترجمة”، ولا جاء التصوف أمثولة شكلانية بمعنى الحب والتسامح والمشاعر البيضاء، إذ أعربت الباحثة الدكتورة هالة فؤاد عن اندهاشها من طرح فكر ابن عربي شديد التعمق والتعقيد في ندوة عامة لا تتسع للنصوص المنغلقة. وقالت “متى نتحرر من الانبهار، مجرد الانبهار، بابن عربي، وبالتصوف، بدون القدرة على القراءة الجادة، والتحليل المتعمق، والحوار، والأخذ، والرد؟”.
ابن عربي طاقة شديدة الخصوبة، ونسق معرفي مخيف بالغ الثراء، لكن ذلك لا يدعو إلى تمرير أفكاره وآرائه وتصوراته كما هي
وذكرت أن ابن عربي طاقة شديدة الخصوبة، ونسق معرفي مخيف بالغ الثراء، لكن ذلك لا يدعو إلى تمرير أفكاره وآرائه وتصوراته تمريرًا كارنفاليًّا في الندوات والمؤتمرات دون مناقشة وتمحيص، وتضيف “يبدو أننا في مصر، وفي دول عربية أخرى، لدينا ميل رسمي إلى تصدير التصوف كمعادل فضفاض للتجديد الديني، وكدرع حماية في مواجهة التيارات المتشددة”.
وأشارت هالة فؤاد إلى أن مثل هذا التصدير الفج للتصوف، سواء في المؤتمرات أو في الندوات أو حتى في الأعمال الإبداعية والفنية المستلهمة من سيرة المتصوفين، يجرد التصوف من عمقه الروحي والإنساني والفلسفي، ويلخصه تلخيصًا مخلّا في مجموعة من الحكم وأبيات الشعر عن الحب والتسامح وما إلى ذلك، الأمر الذي يفرغ التصوف من محتواه، ويُسقط إمكانية قراءته وفق دراسات جادة.
وبإثارة سؤال “هل يصلح التصوف، على الأرض، لمقاومة جماعات العنف؟”، أجابت فؤاد بالنفي، موضحة أن التصوف الذي قام على “كسر النسق” وإزاحة مركزيات وأصوليات راسخة على كل المستويات، أتى هو الآخر بأصولية بديلة، إذ لم يخل من قداسة وحصانة ضد المراجعة، وقالت “أصولية التصوف أخطر، فالفقيه من الممكن مناقشته ورده بقوانين العقل أو سطور النقل، لكن المتصوف الذي يقول إنه يرى ما لا يراه غيره، ويتلقى مباشرة من الله، بأية آلية يمكن مناطحته في ما ذهب إليه؟ إن المريد بين يدي شيخه مثل الميت بين يدي غاسله”.
وتساءلت “لماذا نحن مولعون بإحلال أصولية محل أخرى؟ وهل إزاحة أصولية يفترض البعض أنها لم تعد ملائمة، هي أصولية الأزهر، لا تتأتى سوى بالتكريس لأصولية بديلة، هي أصولية التصوف؟”.
أما الذي طرحته الندوة لمواجهة أزمات الواقع وتياراته الظلامية، فهو التحرر من المرجعيات القطبية، على اختلافها، على اعتبار أن تقدُّم الغرب انبنى على النقد الذاتي، بحسبنا التسليم بالثوابت، ومشروع التحديث الحقيقي بات غائبًا عن الأرض والوعي، والتنوير يعاني الاغتراب بسبب اجترارنا ماضينا وعدم مقدرتنا على التجديد الخلاق.
محي الدين ابن عربي أحد أقطاب التصوف من ذوي الأفكار الكبرى، الجديرة بالتأمل والتحليل، وأيضا الحوار والمراجعة
ودعت إلى فصل التصوف عن الدين عند دراسته علميًّا، وتعني عبارة “التصوف الإسلامي” أنه نشأ في العهد الإسلامي كتاريخ وجغرافيا، مثل الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي، لكن التصوف رؤية عميقة للعالم، وقيمة كبرى، ونخبة معرفية، لذلك يجب أن تتجاوز الدراسات له مباحث من قبيل “هل كان ابن عربي متدينًا أم لا؟ وهل إسلامه سني أم شيعي أم أشعري؟ مثل هذه الأمور تسطّح التصوف، شأنها شأن ما يجري على الأرض حاليًا، من تقزيم للتصوف، وخلع صفته على جماعات الصوفية الحالية، التي لا اهتمام لها سوى بحلقات الذكر والموالد والرقص وتغييب العقل”.
ما له وما عليه
وانتقد أنور مغيث، رئيس المركز القومي للترجمة، هذه التمثلات العصرية للتصوف، في هيئة الفرق والجماعات الصوفية التي يقتصر دورها في العصر الراهن على الإنشاد وجوب الآفاق في مواكب احتفالية، معتبرًا أن مثل هذه الأمور السطحية وصلت بفلسفة رفض العقل والعقلانية ذات المغزى العميق إلى “اعتناق الخرافة”.
ووصف التصوف في عمقه الإنساني المنشود، بأنه أوكسجين الروح، الذي خلص الفكر من جموده، وأرسى معاني أرحب للدين من ممارسة الشعائر ممارسة آلية.
وقال: ان ابن عربي أحد أقطاب التصوف من ذوي الأفكار الكبرى، الجديرة بالتأمل والتحليل، وأيضًا الحوار والمراجعة، وما يؤخذ على المتصوفة عمومًا “أن لديهم دائمًا تابعين محدودي العقل والإدراك والرؤية، ومتبوعين متميزين في كل شيء، لا مجال لمناقشتهم أو مراجعتهم، وفي هذا نسف للديمقراطية بمعناها الحديث، وتبادل الآراء بشكل حضاري”.
تفاعل الباحث الدكتور حسام نايل مع آراء ابن عربي، صاحب “الفتوحات المكية” و”فصوص الحكم” وغيرهما من المؤلفات الحاملة مذهبه وخلاصة أفكاره، قائلًا “ابن عربي، روح تمردية استثنائية، نفر من العقل الصارم، وتولى فحص تراثه وتمحيصه على غير منوال سابق، متجاوزًا العقلانية الفقهية، والعقلانية الفلسفية، في سعيه إلى تحرير النصوص من التقييد الدلالي”.
وأشار إلى دور ابن عربي في تفكيك ما استند إليه الأشاعرة والمعتزلة على السواء، واصفًا شيخ الصوفية بأنه “مبدع الحيرة المثمرة”، قائلا “الحيرة تقود إلى القلق، والحركة، ومن ثم فلا سكون، ولا عدم.
هكذا ماء النهر المتدفق، وهكذا يجب التعاطي مع ابن عربي الموسوعي الكبير، كل يوم بمنظور مختلف ومدخل بحثي جديد، لقراءة ما للرجل وما عليه بشكل متوازن وشامل”.