فتاوى التخويف من الطلاق لا تؤسس أسرا متماسكة

تحريم الانفصال بلا أعذار حقيقية يحوّل بيت الزوجية إلى سجن أبدي.
الثلاثاء 2023/10/31
عدد من الفتاوى تستغل لتشويه المرأة

يؤكد المتخصصون في العلاقات الأسرية أن التعويل على الفتوى لإدارة شؤون العلاقات الزوجية لا يمكن أن يؤسس لعلاقات أسرية سوية ومتماسكة، بل يجعل الحياة بين الشريكين أقرب إلى السِّجن. ويرون أن التمادي في الترهيب الديني بفتاوى تحارب الطلاق فيه ظلم للمرأة بدرجة أولى، وانتهاك واضح لخصوصية علاقتها بزوجها، فالفتاوى من شأنها أن تنغص حياة الزوجين.

القاهرة - “المرأة التي تطلب الطلاق دون عذر مقبول لن تدخل الجنة”، إلى هذا الحدّ وصل الترهيب الديني في مصر ضد التفكير في الانفصال بين الزوجين بحجة أن هذه الفتاوى تبحث عن كيان أسري متماسك عقب ارتفاع معدلات الطلاق إلى مستوى قياسي، وعدم إدراك الشريكين لخطورة الوصول إلى نقطة تؤدي إلى انهيار الأسرة.

وأصبحت أسر عديدة في مصر تعيش مرحلة خطرة من الفتاوى التي تستهدفها، حيث يصر بعض رجال الدين على تنصيب أنفسهم أوصياء على علاقة الرجل بالمرأة، متى يعاشرها، وبأيّ طريقة يعاقبها، وما هي الأسباب التي يصح معها الطلاق، والأعذار المقبولة أو المرفوضة للانفصال، في انتهاك واضح للخصوصية.

ويسوّق بعض رجال الدين فتاوى الترهيب من الطلاق بأنها تستهدف تثبيت أركان الأسرة وإقناع الزوجين بالبقاء معا لأطول فترة ممكنة دون إدراك لمخاطر هذه النوعية من الرؤى الضيقة والمنغلقة في مجتمع يميل إلى العمل بالفتوى نحو تسيير شؤونه وإدارة علاقاته الشخصية أكثر من الاعتراف بالقانون.

ولم يحدد الدعاة الرافضون للطلاق بلا عذر مقبول الأسباب المقنعة للدين التي يمكن أن تستند عليها المرأة أو الرجل في الانفصال بتحضر طالما أن العلاقة الزوجية وصلت إلى طريق مسدود، وكيف يمكن أن يبقى كلاهما في علاقة جيدة مع الآخر وهو لا يشعر بالراحة والطمأنينة والمودة ويرغب في الانسحاب دون خسائر.

علاء الغندور: الفتاوى الشاذة هي الأساس الذي يُبنى عليه العنف ضد النساء
علاء الغندور: الفتاوى الشاذة هي الأساس الذي يُبنى عليه العنف ضد النساء

يبدو أن هناك رجال دين يحاولون بشتى السبل استغلال مكانتهم الاجتماعية في المزيد من النفاق للسلطة التي تبحث عن حلول غير تقليدية لمواجهة ظاهرة الطلاق، بالفتاوى أو تعديل التشريعات القائمة، لكن المعضلة في بلوغ الأمر حد الوصاية الفجة على الزوجين وتحديد مسار حياتهما برؤية دينية.

ويفترض أن الهدف من الفتاوى تنظيم شؤون الحياة اليومية للناس بلا تدخل أو إكراه لأيّ أسرة على العمل بها والوصول إلى حد الترهيب بمنع دخول الجنة للمخالفين، وباتت بعض الفتاوى مدمرة للأسرة أكثر منها وسيلة لتحقيق الاستقرار، لاسيما أن فئة في المجتمع المصري لم تصل بعد إلى مرحلة التخلي عن تقديس الفتوى.

وتدفع ممارسات المفتين من غير ذوي الاختصاص الذين يطلقون الفتاوى المرتبطة بالعلاقات الأسرية بعض العائلات إلى توظيف الفتاوى التي تتناسب مع حياتهم الشخصية لتكون ذريعة وحصانة لهم في ارتكاب أفعال مريبة تهدم الحياة الزوجية برمّتها، أو تكدر حياة أحد الشريكين.

ومن هؤلاء أميرة حسنين وهي زوجة مصرية وصلت علاقتها بشريكها إلى مرحلة البغض والكراهية لأسباب كثيرة تخصها، ولم تعد تكنّ له مشاعر إيجابية تدفعها للبقاء معه، وعندما ذهبت إلى استطلاع رأي رجل دين وشرحت له ما يدور في بالها، جاء الرد بأن طلاقها دون سبب ملموس أو عذر مقبول يجعلها عاصية لربها.

وقالت حسنين لـ”العرب” إن شقيقها الأكبر كان معها في الجلسة التي جمعتها برجل الدين، وبعد انتهاء اللقاء أبلغها باستحالة طلاقها من زوجها لأنها سترتكب فعلا يُغضب الله، لكنها لم تكن مقتنعة بما سمعت وأصرت على الطلاق، ما دفع أسرتها إلى تخويفها بالقطيعة الأبدية لأنها لم تتعرض لعنف من زوجها حتى تنفصل.

وأضافت أن أخطر ما في الفتوى الدينية التي تحدد علاقة الزوجين أن المجتمع نفسه يتعامل مع المرأة على أنها مخلوق من “الدرجة الثانية”، ولا يحترم أحيانا رغبتها الشخصية ويملي عليها رؤى فقهية ضيقة، وقالت “عن نفسي لم أعد أطيق العيش مع زوجي، وليس شرطا أن يُمزّق جسدي حتى أطلب الطلاق، فهناك أبعاد نفسية أشد قسوة من الضرب المبرح”.

وتؤكد حالة أميرة أن الفتاوى المرتبطة بالعلاقات الأسرية مهما كانت تستهدف البحث عن نواح إيجابية، فهي لا تتفق مع كل العائلات والعلاقات، وتعميمها على الجميع يقود إلى انتكاسة قوية في العلاقة بين الشريكين، ولكل حالة خصوصيتها التي لا يجب أن تكون أسيرة للفتاوى الفقهية.

ويرى متخصصون في العلاقات الأسرية أن التمادي في الترهيب الديني بفتاوى تحارب كثرة الطلاق، لا يمكن أن يؤسس لعلاقات أسرية سوية ومتماسكة، بل يجعل الحياة بين الشريكين أقرب إلى السّجن، وهذه النوعية من الرؤى الضيقة تتناقض مع الحد الأدنى من حقوق الإنسان في أن يختار نمط الحياة الذي يرغب به ولا يُجبر عليه.

ويعتقد هؤلاء المتخصصون أن التعويل على الفتوى لإدارة شؤون العلاقات الزوجية وتحديد الخطأ والصواب توجه هدّام تزداد خطورته في المجتمعات الأصولية، لأن هذه النوعية من البيئة الأسرية تعاقب وتمنع وتمنح، بل وتعذّب أفرادها، استنادا إلى فتاوى مضللة، ما يبعث على الانقسام الشديد داخل الأسرة الواحدة.

وهناك نساء مصريات يلجأن إلى الطلاق حيث يستخدمن قانون الخلع بأسباب واهية وغير منطقية، لكن من غير المقبول أن يتم استبدال التعديلات التشريعية المطلوبة على القانون لتقنين الأسباب التي تستند عليها المرأة للطلاق بفتاوى تجعلها أسيرة لرؤى أسرتها ودائرة علاقاتها كونها خالفت الدين.

من يدفع فاتورة الطلاق في مصر
من يدفع فاتورة الطلاق في مصر

وأوضح علاء الغندور استشاري العلاقات الزوجية في مصر أن الارتكان إلى الرؤى الدينية وحدها في تحديد مسار العلاقة الزوجية خطر على أفراد الأسرة، لأنها أحيانا تكرس الشقاق بدلا من أن تدفع إلى التماسك، وكل طرف يتعامل معها وفق ميوله الشخصية، وثمة أسر تفرض على المرأة الاستمرار في علاقة هي نفسها تبغضها بشدة.

وذكر لـ”العرب” أن الأزمة أصبحت في الأسر البسيطة التي تجهل طريق الحصول على فتوى عقلانية، وهؤلاء أكثر ما يتأثرون بالفتاوى الشاذة التي تتحدث عن الحلال والحرام، ويحددون مسار العلاقات الزوجية من خلالها، وإذا خرج أحد الشريكين عن طريق الفتوى يُعاني الاستهداف والتربص ويضطر لاستكمال العلاقة رغما عنه.

ولفت الغندور إلى أن الفتاوى الشاذة هي الأساس الذي يُبنى عليه العنف الأسري ضد النساء في أيّ بيئة تقدس الرأي الديني في تسيير الحياة العائلية، لأن المرأة في هذه البيئة تواجه استسهالا في نشر ثقافة التحريم حول كل ما يرتبط بحياتها، ولو فكرت في التحرر قانونيا من علاقة زوجية لم تعد تستطيع الاستمرار فيها.

وعلى الرغم من أن شريحة كبيرة من المصريات أصبحت أكثر تمردا على الالتزام بقدسية الفتاوى التي تحدد الإطار الذي تتحرك خلاله، لكن أغلبيتهن يعشن أسيرات لتشدد عائلاتهن، ويواجهن ردود فعل قاسية لمجرد أن يُلمحن إلى رغبتهن في الطلاق وعدم الاستمرار في العلاقة الزوجية مهما كانت دوافعهن منطقية ومقبولة.

وفي مجتمع شرقي مثل مصر، تظهر الخطورة في استغلال الدين لتشويه المرأة وإظهارها ككائن متمرد ولا تتحمل المسؤولية الزوجية، ضمن محاولات إجبارها على مسار معين لتعيش في سجن طويل أو مربع معين لا تخرج منه، كجزء من النظرة الدونية للنساء أمام صمت أهل العلم عن الرد على المتشددين.

وترحب بعض الأصوات بتداخل الفتوى مع النواحي الأسرية، شريطة أن يكون ذلك عبر الاعتماد على عناصر نسائية في تسيير أمور مرتبطة بالمرأة، مثل الزواج والطلاق وحل الخلافات ومناقشة الأسباب التي تقود إلى الانفصال، لا أن يتدخل الدعاة الرجال في أيّ من القضايا والشواغل التي تخص النساء وحياتهن الأسرية.

15