"فايروس الشعبوية" يهدد الانتقال السياسي في تونس

ائتلاف الكرامة يستنجد بالخطاب التكفيري لمواجهة خصومه، فيما يزداد التوجس من عودة خطابات التحريض والتكفير في تونس بسبب الأجواء السياسية المشحونة.
الأحد 2020/03/08
الدفع لعودة الاستقطاب

تتوجس الأوساط السياسية التونسية من انزلاق البلاد مجددا إلى مربع العنف، بعد أن غزا خطاب التكفير والتخوين البرلمان التونسي المنقسم على نفسه. وتدفع أحزاب الإسلام السياسي باتجاه تأزيم المشهد والعودة به إلى مرحلة الاستقطاب (إسلاميون، علمانيون) التي عرفتها تونس سنة 2011 ودفعت البلاد ثمنا باهظا (اغتيالات سياسية، عمليات إرهابية) لتجاوزها.

تونس - مثلت هذا الأسبوع حادثة تبرير نائب تونسي عن ائتلاف الكرامة الإسلامي للتكفير كـ”حكم شرعي” داخل البرلمان التونسي الحدث الأبرز الذي شد التونسيين وأعاد إلى أذهانهم ذكريات أليمة عاشوها بسبب تصريحات مشابهة، وأخذ البعض الحديث الصادر عن “ممثل الشعب” على محمل الجد بعد أن شن إرهابيون هجوما على دورية أمنية بالقرب من السفارة الأميركية في تونس، الجمعة، ما أسفر عن مقتل أمني.

ويزداد التوجس من عودة خطابات التحريض والتكفير في تونس بسبب الأجواء السياسية المشحونة، والتي كانت متوقعة منذ صدور نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أفرزت برلمانا مشتتا.

والثلاثاء الماضي توجه النائب محمد العفاس -وهو نائب عن محافظة صفاقس (جنوب تونس)- بالحديث لزعيمة الحزب الدستوري الحر عبير موسي قائلا إنه “لا يجب أن يخجل التونسيون من التكفير فهو حكم شرعي وورد في القرآن أيضا”.

ويوصف ائتلاف الكرامة بأنه واجهة من واجهات حركة النهضة الإسلامية التي ندد زعيمها ورئيس البرلمان راشد الغنوشي بحادثة التكفير والحادثة الإرهابية التي جدت بمحيط السفارة الأميركية.

وبالتوازي مع خطاب النائب عن ائتلاف الكرامة الذي بث فوضى عارمة في أروقة البرلمان التونسي وزاد من منسوب الاحتقان داخل مجلس النواب المنقسم بطبعه، أصدر مركز كارنيغي للأبحاث دراسة تطرق فيها إلى إمكانية صعود الشعبوية في تونس وأبرز فيها الأخطار التي تُحدق بالديمقراطية الناشئة في حال حصل ذلك.

ولئن ألف التونسيون مظاهر التشتت التي طغت على مجلس النواب في عهدته الحالية فإن خطاب العفاس يمثل تهديدا جديا للسلم المُجتمعي في البلاد حيث ينظم دستور 2014 طريقة عيش التونسيين دون تمييز على أساس “اللون” أو “الدين” أو “الجنس”.

محمد العفاس: لا يجب أن نخجل من التكفير فهو حكم شرعي
محمد العفاس: لا يجب أن نخجل من التكفير فهو حكم شرعي

ولا يمكن لعودة التكفير وتوعد الآخر غير المسلم إلا أن “تُشرعن” لعودة تحشيد أنصار الشريعة وهي جماعة “احتكرت” في فترة الترويكا (فترة حكم امتدت من 2011 إلى 2014) الدفاع عن الدين.

ويغذي تمكن هذه الجماعة -وغيرها من الجماعات التي قامت بتعبئة كبيرة للتنظيمات المتطرفة المتواجدة في مرتفعات الجبال التونسية وفي سوريا والعراق وليبيا- من العودة إلى الساحة غياب الاستقرار السياسي في تونس.

وغير بعيد عن تكهنات مركز كارنيغي الذي حذر من عدة عوامل قد تغذي صعود الشعبوية في تونس دقت مجموعة الأزمات الدولية بدورها ناقوس الخطر بشأن الوضع السياسي الذي ينبغي “تقدير الموقف” بشأنه.

ولم تتوان دراسة أصدرتها المجموعة الدولية الأسبوع الماضي عن التطرق إلى إمكانية أن تنتج الانتخابات التي نظمتها تونس مؤخرا نسخة أخرى مطابقة لروابط حماية الثورة، وذلك من خلال ائتلاف الكرامة الذي أصبح له باع وذراع في المشهد السياسي بعد أن حصد 21 مقعدا في الانتخابات الأخيرة.

وخلصت الدراسة، التي صدرت الأسبوع الماضي، إلى أن تونس مقبلة على أزمات حادة وعميقة خاصة أن المشهد السياسي “المشتت” يدفع نحو هذا الاتجاه.

وما ذهبت إليه المجموعة الدولية يعد صائبا خاصة عندما تطرقت إلى شخصية رئيس الجمهورية قيس سعيد التي وصفتها بالغامضة.

ففي الماضي القريب مثل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي شخصية التوازن والتوافق في تونس إذ نجح في ضم الإسلاميين بكل شقوقهم (“المتطرف” و”المعتدل”) إلى الحكم معه ومع حزبه نداء تونس، وبذلك عاشت البلاد استقرارا نسبيا سياسيا وأمنيا وإن لم يحقق نتائج إيجابية اقتصاديا فإنه نجح في الحد من منسوب الاحتقان.

واليوم ظلت شخصية وحيدة تبحث عن التحكم في المشهد السياسي وإمساك خيوطه وهي شخصية زعيم حركة النهضة الإسلامية الذي يقف “عاجزا” عن “لجم” قياديي ائتلاف الكرامة الذين يتبنون خطابا متطرفا، وبات ذلك واضحا خلال إدانته تكفيرهم لبعض زملائهم داخل البرلمان.

وتغيرت المعطيات بعد وفاة قائد السبسي مع صعود الحزب الدستوري الحر الذي يتبنى بدوره خطابا معاديا لكل من تعمد التحالف مع “الإسلاميين”، وهو خطاب يغري في الواقع الغاضبين من توافق أحزاب العائلة الوسطية مع حركة النهضة في السنوات الماضية.

وبات مجلس النواب التونسي مشلولا بسبب خلافات عبير موسي -وهي رئيسة كتلته في البرلمان- مع نواب آخرين، إضافة إلى أنها تمثل “الأمل الوحيد” لدى التونسيين الذين يهزهم الحنين للعودة إلى النظام السابق وعودة رموز الدولة الوطنية إلى الحكم.

وبالإضافة إلى ذلك حقق ائتلاف الكرامة اختراقا في الانتخابات الأخيرة حوّله إلى قوة فاعلة في المشهد بفضل خطاب سياسي طغت عليه “النزعة المتطرفة” من خلال توعد السفير الفرنسي أوليفي بوافر دارفور (باعتبار أن تونس مستعمرة فرنسية سابقة) أو إقصاء كل رموز الدولة الوطنية.

Thumbnail

ونجح هذا الائتلاف بالفعل في استمالة الناخبين من خلال تعهدهم باسترجاع “الثروات المنهوبة” وغير ذلك من الوعود التي يرى فيها بعض التونسيين خلاصا من مشهد طغت عليه الحسابات السياسية على مطالب التنمية وتحسين الأوضاع المعيشية.

ولكن بعد وصولهم إلى البرلمان تغير الخطاب وعاد نواب ائتلاف الكرامة يجترون عبارات التكفير والتحريض التي من شأنها أن تنزلق بتونس مجددا نحو مربع الفوضى.

وما يمكن أن يُعاب على الدولة التونسية التي تعيش مخاضا عسيرا لإرساء ديمقراطية مستقرة هو عدم سن قوانين تمنع هذه الظاهرة (التكفير) التي تؤشر على عودة غير مستبعدة للعنف السياسي الذي دفع التونسيون ثمنه غاليا في 2013 بعد اغتيال الزعيم اليساري شكري بالعيد ومن بعد رفيقه الناصري محمد البراهمي.

فاليوم تُكافح دول أوروبية عديدة، على غرار ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، التطرف اليميني بقوانين تحظر خطابات تنم عن الكراهية أو التحريض والعنف.

وبالإضافة إلى ضرورة تجفيف منابع التطرف ينبغي على تونس ألا تعلق خيباتها على الوضعين الإقليمي والعالمي المتوترَين نسبيا حيث تشهد جارتها ليبيا نزاعا مستمرا، بل عليها أن تعمل على تحيين بياناتها بشأن الإرهابيين العائدين من بؤر التوتر والاستعداد لكيفية التعامل معهم لأنهم يمثلون “الوجه العنيف للشعبوية”.

ولا يجب أن تقتصر مكافحة الشعبوية الصاعدة في تونس على العاملَين اللذين تم ذكرهما بل ينبغي إيلاء المناطق المهمشة، التي قد تمثل في سباقات انتخابية قادمة خزانا انتخابيا هاما للشعبويين، أهمية “قصوى”.

2