فانتازيا الواقع تتمدد في معرض للفلسطيني بشار الحروب

واصل الفنان التشكيلي الفلسطيني بشار الحروب استكمال تجربته الفنية التي تقوم على إعادة فهم الأحداث في بلاده انطلاقا من تأمل المكان والتغيرات الحاصلة فيه، بفعل الأزمات المتكررة، لكنه يتصوره مكانا مفعما بالأمل، وملتزما بالقيم الإنسانية، فيأتي رغم الأزمات مكانا هادئا ذا منطق بصري يخضع لأفكار الفنان.
قدم الفنان الفلسطيني متعدد الوسائط بشار الحروب معرضا في غاليري كريم في عمّان تحت عنوان "أرض الملح" استمر حتى العاشر من شهر نوفمبر الماضي. ضم المعرض مجموعة من اللوحات بالحجم الكبير ومفتوحة الآفاق وملونة جدا في انسيابها مباشرة من خيال الفنان الفانتازيّ الرحب والمُطعم بالعاطفة لمنطقة صحراوية جعلها بأسلوبه الفني منطقة حميمية تخصه وحده دون غيره من الناس. أما هذه المنطقة فهي تلك التي تقع ما بين فلسطين والأردن. كما ضم المعرض جداريات من السيراميك شكلها الفنان بأسلوب معاصر خاص به خارج فن السيراميك التقليدي الذي اعتاد الكثيرون عليه.
للفنان بشار الحروب غزير الأفكار والإنتاج الفني معرضين على الأقل خلال هذا العام وصولا إلى العام 2023. معرض في غاليري كريم العمانية بعنوان “أرض الملح” ومعرض آخر في صالة زاوية في دبي تحت عنوان “ترسيم الحدود” ولا يفصل بينهما فترة طويلة من الزمن.
ما قدمه الفنان في كلا المعرضين جاء أسوة بالمعارض السابقة انعكاسا لأفكار لم تبارحه، بل اغتنت مع تطور أساليبه الفنية ومع تبدل الظروف التي لم يرها الفنان يوما إلا متقلّبة ومتحولة وآيلة للاندثار مهما طال بها الزمن.
حاول الفنان في معظم معارضه السابقة أن ينشأ نصا بصريا خاصا به ينمو على هامش واقع مُعاش غلبته الكآبة التي، كما ذكرنا آنفا، رآها الفنان عابرة مهما طال بها الزمن. واستطاع بفضل ذلك أن ينتج الكثير من الأعمال التي مهما بلغت قوة تعبيرها عن أفكار بالغة الأهمية كالحرية والهوية والحدود الفاصلة وما غير ذلك، اتسمت بهدوء غرائبي يهدئ من روع المُشاهد.
ربما استطاع أن يكرس منطقه البصري/الفكري هذا من خلال تبنيه حالة التأمل والتمعن بالأحداث وما نتج عنها خارج سياقها الجغرافي المحدود وعلى مسافة بعد من تاريخها المُباشر. تنوّعت أعمال بشار الحروب الفنية ما بين رسم وتجهيز وتصوير فوتوغرافي وطباعة وتصوير ضوئي ونحت، ولكنها اشتركت في كونها عابرة لأي غضب أو حزن أو قلق.
وما معرضه الحالي “أرض الملح” إلا أوج ما أراد التعبير عنه حتى الآن. ففي أعماله الحاضرة في المعرض نعثر على الأرض الملونة الخارجة عن رماديتها الواقعية والمنبسطة رغم تلالها وكثبانها ذات الألوان الباهتة، والمأهولة بأهلها وإن كانوا غير مرئيين. كما نعثر في أعماله على مفهوم الزمن الخارج عن جريانه. زمن تعلق على ألوانه الزاخرة بطعم الثبات غير الأرضي والخاص بعالم آخر يتخطى مفهومنا للزمن والمكان على حدّ سواء.
قال الفنان عن معرضه هذا "لا تشي الجيولوجيا بأنّ حياة كانت في هذا المكان، كـأنّ التّكوين قد توقّف في لحظة ما هنا.. ما بين سدوم وعمورة سكنت شعوب وقبائل.. أنبياء وملائكة عبروا من هنا.. لا يوحي المكان بأيّ حياة كانت هنا، لا أثر مرئيّا إلا ما ورد في النصوص الدينية والميثولوجيا وأبحاث أركيولوجية، كأنّه المطهّر بين الجنّة أو الجحيم، والجحيم مهرب القدّيسين والقارئين من بطش الغزاة الذين احتلوا البلاد.. في مكان يموت فيه اللّون إلا من عبور في الرّماديات.. مكان فيه متّسع للتّأمل والخيال، تشغلك فيه فكرة التّكوين وبداية الخلق".
ويضيف الفنان قائلا “سعيت لأحياء هذه المساحة الجغرافيّة، عبر بثّ الرّوح فيها من خلال لوحات ملوّنة وجداريات سيراميكيّة، دون الابتعاد عن فكرتي التأمّل والصّمت ولكن بالانتصار إلى الحياة، متّكئا على تقنيّة الاختزال وعلى تجربتي الشّخصيّة مع هذه المساحة الجغرافيّة التي تبدوا كالأرض اليباب، باعتبار أنها تلك المساحة التي تلتقطها أعين الفلسطينيين من نوافذ الحافلات والمركبات العموميّة في رحلاتهم المتكرّرة من فلسطين عبر الأردن، وكأن في هذه الجغرافيا ما يشكل انعكاسا للحالة الفلسطينيّة منذ أكثر من ستيّن عاما".
وتلعب الذاكرة الشخصية دورا في صياغة اللوحات، ولكن للخيال الدور الرئيسي في تشكيل معالم المشاهد الطبيعية فهي تبدو بقاعا غرائبية لا تشبه المشاهد الواقعية بأي شيء. لكنها في الآن ذاته صادقة بما يرشح عنها من فرح وأمل.
◙ تلعب الذاكرة الشخصية دورا في صياغة اللوحات، ولكن للخيال الدور الرئيسي في تشكيل معالم المشاهد الطبيعية
لوحاته تلك تقول لمُشاهدها إن في مكامن الواقع الكئيب ثمة ألوان هي أصدق من الكآبة وأكثر ثبات منها. إنها مشاهد ملونة ومتوقدة متحدة مع السماء المُعلّقة فوقها. مشاهد تكشف حقيقة المساحة الجغرافية الصحراوية القاحلة وهي حينئذ ستلتقط “أعين الفلسطينيين من نوافذ الحافلات والمركبات العموميّة في رحلاتهم المتكرّرة من فلسطين عبر الأردن” ليس كمشاهد عابرة ومملة، ولكن مثل “غنائيات” تغوص في الوجدان لتستقر.
عبر جعل المشاهد العامة، مشاهدة خاصة يدعو الفنان بشار الحروب، المُشاهد وهو هنا مُشاهد كل فلسطين وليس فقط المنطقة الصحراوية الفاصلة ما بين فلسطين والأردن، أن “يمتلك” ما يراه. أن يمتلك تلك المناطق العابقة بالفانتازيا حتى وإن كانت تحت التهديد أو الاحتلال لأنه زائل زوال كل كذبة.
يُذكر أن الفنان بشّار الحروب من مواليد القدس سنة1978، حاصل على الماجستير في الفنون المعاصرة من جامعة وينشستر للفنون الجميلة- جامعة ساوث هامبتون– بريطانيا سنة 2010. كما تحصّل على الجائزة الأولى في بينالي الفنّ الأسيوي الخامس عشر بنغلادش سنة 2012. له مشاركات كثيرة في معارض جماعية في العالم وأقام معارض فردية منها “الحرب والرغبة ” والجندي الكوني” و”عودة الشامان” والناسك و”شاشة صامتة”. ولديه مجموعة أعمال فنية بعنوان “أساطير” تتحدث عن العزلة.