فؤاد أبوعساف أيقونة البازلت السوري الجامع بين الميثولوجيا والواقع

السويداء (سوريا) - ثمّة تشكيل حسّي ـ حركيّ في المنحوتة التي صاغها الفنان السوري الراحل حديثا فؤاد أبوعساف (1966ـ2021)، كأنه ينحتُ فكرة ليفحص مدى قدرة المتلقّي على التمييز بين الفعل الفلسفي ببعديه الميتافيزيقي والواقعي أيضا، فالنحت عنده لا يمكن أن يتملَّص من بثّ الجمال في المكان لاكتشاف قيمه الإنسانية الخالصة.
والفنان الذي غّيبه الموت في التاسع عشر من سبتمبر الجاري عن عمر ناهز الخمسة والخمسين عاما بعد صراع طويل مع المرض، تميّزت مسيرته بإبداع فني ولد من رحم بيئته المحلية السويداء، تغذّيه روح شغوفة تبحث عن مستقرّ لها بين عتمة البازلت وقسوته صاغه الفنان من الخيال والأساطير وموهبة وغنى فكري وثقافي لديه أغنت لغة التشكيل السوري والعالمي بشكل عام، تاركا إرثا غنيا من الأعمال النحتية والفنية بأسلوبية خاصة، جعلت زملاؤه وأصدقاؤه يطلقون عليه لقب أيقونة البازلت السوري.
وعن هذا اللقب الذي أسند للراحل وهو على قيد التشكيل الفعلي قبل أن تخطفه المنية أخيرا، يقول رئيس فرع اتحاد الفنانين التشكيليين بالسويداء الفنان حمد عزام إنه تم إطلاق لقب الأيقونة السورية على الفنان الراحل لتفرّد أسلوبه وغنى أعماله وموضوعاته وتنوّع خاماته، وأهمها البازلت، وهو الذي أضفى بصمة متفرّدة في الفن السوري تاركا أكثر من خمسة آلاف عمل بمقاسات مختلفة منها كبيرة وضخمة أوزانها عشرات الأطنان، فضلا عن مشغله الذي كان بمثابة متحف دائم ومقصد لأصحاب الفكر والأدب والفنانين من داخل سوريا وخارجها للاطلاع على روائع أعماله.
ويقول مدير معهد الفنون التشكيلية والتطبيقية الفنان النحات أسامة عماشة عن عطاء أبوعساف في مجال تعليم الفن عبر تدريسه بمعهد الفنون التطبيقية والتشكيلية وإشرافه على قسم النحت “كان ملما بالمنهاج وتطويره وصاحب معرفة وثقافة عالية، وقد احتضن الراحل المواهب الشابة وساعدها على شقّ طريقها في النحت، حيث حرص على تسديد رسوم العديد من الطلاب لضمان متابعة مشوارهم الفني، فضلا عن نتاجه الفني الذي وصل إلى خمسة آلاف عمل نحتي ودراسات ورقية متباينة الأشكال والأحجام والأوزان”.
ويرى النحات أنور رشيد أن منحوتات أبوعساف تميّزت بالوضوح والسهولة، وبأنها ذات سطوح لامعة وخطوط ليّنة ومستقرّة وفيها تعبير قويّ، خاصة في أعمال الأقنعة الطولية، وهو حين اختار موضوع القناع وتوظفيه، عبّر عن مكنوناته الإنسانية والتعبيرات القوية الواضحة مع تبسيط العناصر كي تكون مفهومة للعامة، وهو ما يحسب له.
ويستعيد النحات نشأت الحلبي، جملة كان يردّدها أبوعساف مفادها “الغزارة في الكم تؤدّي إلى تغيّر نوعي”، مبرزا مدى شغف الراحل بالنحت، قائلا “كان يعمل بكثرة وبشكل شبه يومي وامتاز بأسلوبه التعبيري وشخوصه الإنسانية وإضافة العناصر الأخرى التي تحمل رمزية في معانيها وإشاراتها إن كان عبر الأسطورة أو الواقعة التاريخية أو في تمثيل لحادثة أو حكمة”، مبيّنا أن تعمّقه الغزير في المعرفة ساعده على إخراج أعمال نحتية ارتقت إلى العالمية.
ولفت الفنان التشكيلي نضال خويص إلى أن “أعمال الفنان الراحل تراوحت في مجملها بين التماثيل العملاقة والمتوسطة والصغيرة، وهي تكشف عن حالات تعبيرية في منتهى الجمال والرشاقة والروعة لأشخاص ووجوه يغلب عليها طابع القداسة، ولكنها مثقلة بهموم الواقع المعاصر”.
وانتشرت أعمال الفنان الراحل في الكثير من دول العالم، وزيّنت العديد من الشوارع والحدائق والأماكن السورية العامة، ومنها نصب الشهيد الطالب الموجود في كلية الحقوق بجامعة دمشق بارتفاع أكثر من ستة أمتار، إضافة إلى أعمال أخرى كمنحوتة العشاء الأخير، وشجرة التفاح، ومذكرات طفل سوري “دون كيشوت”، وسيزيف السوري، وحبة القمح، وليدا والأوزة، وروزا وحجر الصوان، ويا سنديانة، وأنا شجرة، فضلا عن تجسيده المرأة بكل تجلياتها وبكل ما تعنيه من انتماء استنادا إلى مقولة محي الدين ابن عربي “كل ما لا يؤنّث لا يعوّل عليه”. كما كانت له العديد من المساهمات في تأسيس عدد من الملتقيات النحتية الدولية بالسويداء في تل جلجلة وموقع سيع.
وتتباين الأشكال والأجسام والأحجام في منحوتات أبوعساف وتتعدّد آفاق التعبير والمنطلقات الفكرية والفلسفية، ولكن تبقى نظرية واحدة تربط بين إبداعاته وأعماله النحتية، وهي لغة السطوح والملامس المبتكرة التي يقوم عليها اتجاهه وينسج منها عالمه الخاص ويستلهم أفكاره محوّلا إياها إلى حوار وسجال مفتوح يسمح للمتلقي بقراءات متعدّدة لأعماله.
والنحات الذي نشأ في بيئة ريفية، وكان حاضرا بين الأرض والتربة والحجارة والصخور عشق الفن منذ الصغر وشغف بالتراث، وهو الذي كان يرى النحت قدره والنحات الذي يسكنه قادر على التحليق في فضاءات الكون، مُعيدا الكثير ممّا أبدعه إلى فكرة الأسطورة بإسقاط معاصر شكّل منه أعمالا لامست ثقافة المنطقة في كامل تجلياتها وترجمت الكلمات والموسيقى الداخلية لمشاعره.
وعن تجربة أبوعساف الفنية يقول الفنان التشكيلي ناصر عبيد “تميّز الراحل بثقافته الواسعة التي انعكست بشكل واضح على منحوتاته ورموزه وإسقاط الميثولوجيا في أعماله، وقدرته على تطويع الحجر الصلد بشكل مدهش والتعامل معه بكل محبة ورقة وصبر”.
والفنان التشكيلي الراحل فؤاد أبوعساف من مواليد قرية سليم بمحافظة السويداء سنة 1966، تخرّج من قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 1991، وعمل أستاذا لقسم النحت في معهد الفنون التطبيقية والتشكيلية وفي كلية الفنون الجميلة، وشارك في العديد من المعارض والملتقيات الفنية وأعماله مقتناة داخل سوريا وخارجها وخرّج الكثير من الطلاب والمتدربين من مشغله.