غياب ضوابط البث المباشر بمواقع الصحف يعمق فوضى الإعلام المصري

المواقع الإلكترونية في مصر صارت تتسابق على تقنية البث المباشر دون ضوابط أو معايير أو تدريب للعاملين فيها على طريقة استخدام هذه التقنية، أو الإجراءات المطلوبة في اللقاءات المباشرة مع الضيوف، فيما يتم الاكتفاء بصناعة مادة إعلامية تحقق السبق الصحافي بلا تركيز على المحتوى أو انتقاء الموضوعات الجادة التي تجذب الجمهور المستهدف.
القاهرة – تحت عنوان “أول لقاء مع أرملة المهندس المقتول على يد صديقه من أمام المحكمة”، سأل الصحافي السيدة عبر تقنية البث المباشر للصحيفة “أراك حزينة اليوم، ما سر هذا الحزن؟”، فأجابت باستغراب “قطعا حزينة، لماذا أنا مطالبة بأن أكون سعيدة”. فيما كان السؤال الثاني أكثر استغرابا “ولماذا أنتِ هنا اليوم، أراكِ مهتمة بحضور جلسة محاكمة قاتل زوجك؟”.
كان الصحافي الذي أجرى اللقاء سريعا مع أرملة المهندس القتيل يرغب في أن يحقق غرضا واحدا، وهو أن يُنسب إلى صحيفته إجراء أول لقاء معها بعد الحادث، لكنه طرح عليها تساؤلات أثارت سخرية الجمهور الذي تستهدفه الصحيفة من تقنية البث المباشر، في انعكاس واضح لعمق الأزمة وارتباطها الوثيق بغياب التدريب الحقيقي والعميق للعاملين في المهنة على استخدام التقنية.
هناك صحف مصرية كثيرة استطاعت تحقيق متابعات مرتفعة على صفحاتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي من خلال تقنية البث المباشر، لكن غياب الخبرة والكفاءة والتدريب وانعدام الضوابط الحاكمة لدى الصحف والجهات القائمة على إدارة وتنظيم المشهد ضاعف من عمق الفوضى في منظومة إعلامية تئن من العشوائية.
ويرى خبراء أن أزمة البث المباشر متشعبة، فلا توجد متابعة جادة من إدارات الصحف نفسها على آليات استخدام هذه التقنية أو انتقاء الصحافيين الأكفاء ليكونوا وحدهم من يقومون بالمهمة ويتم تكليف صحافي بها ضمن واجباته اليومية أن يصنع بثا مباشرا من مصدره أو الجهة المسؤولة عن تغطية نشاطها، مثل مراسلي المحافظات.
وتكتفي الكثير من الصحف بكتابة عنوان جذاب وشيق ومثير للبث المباشر، أما المحتوى الذي يتحدث عنه أو الأسئلة المطروحة والقضية المتناولة فهذه تأتي في مرتبة ثانية أو ثالثة، حتى أصبح الاستسهال شائعا بين المواقع الإلكترونية في استخدام تقنية البث، باعتبارها لا تحتاج تكلفة كبيرة، ومن خلالها يمكن تجاوز فترة الركود وهجرة القراء لبعض المنصات.

ويظهر عمق الأزمة في غياب الكوادر والكفاءات المهنية التي يمكنها تدريب الصحافيين على البث المباشر وتوجيه العاملين في المواقع الإخبارية، على أحدث ما وصلت إليه المهنة من معايير وضوابط تخص هذه التقنية، فالعبرة ليست في مجاراة التكنولوجيا أو استقطاب الجمهور، لكن في تقديم محتوى جاد وجذاب ومهني.
وقالت ليلى عبدالمجيد عميد كلية الإعلام بجامعة القاهرة سابقا، ومديرة وحدة جودة الإعلام الرقمي في الكلية حاليا، إن التحول من صحافة النص إلى المشاهدة أصبح واقعا لا بد منه لمجاراة التكنولوجيا وتحولات سوق الإعلام، لكن القيام بهذه المهمة دون تدريب على معايير وضوابط البث المباشر يقود إلى كوارث مهنية.
وأضافت لـ”العرب” أن الصحافي الذي يمارس مهمة البث المباشر للصحيفة الإلكترونية، هو في النهاية مذيع، إذا افتقد التدريب ومهارة العمل كمحاور متمكن يعرف يدير الحوار بقواعد يتسبب في أزمات لنفسه ولمؤسسته والمهنة والجمهور، لكن للأسف هناك الكثير من الصحافيين يفتقدون أصول التحول الرقمي.
تهافت المواقع الإخبارية على جذب الجهور بأي وسيلة انعكس ضعفا على المحتوى المكتوب الذي تقدمه للقراء
ويعيب البعض من جمهور منصات التواصل، وهم المستهدف الأول من البث المباشر، على الصحف الرقمية أنها تتماهى بشكل مبالغ مع “التريند” وتتحرك وفق الموضوعات التي يثيرها رواد المنصات، سواء أكانت مرتبطة بأزمة أخلاقية أو جريمة أو حتى قضايا غير أخلاقية، لمجرد أن تحقق معدلات مرتفعة من المشاهدات، بغض النظر عن المعايير المهنية.
وأقرب مثال على ذلك أن معلمة مصرية خرجت مع زملائها في رحلة وقامت بالرقص وتم تصويرها خلسة ونشر المقطع على منصات التواصل تحولت قصتها لقضية رأي عام، فما كان من أغلب الصحف إلا إجراء لقاءات بتقنية البث معها وبعض زملائها، وأهالي منطقتها السكنية، والبحث في سلوكياتها وتاريخها المهني والأخلاقي، حتى تم فصلها من وظيفتها وطلاقها من زوجها.
وعلى الرغم من أن وزير التعليم المصري أعادها إلى عملها بعد ضغوط مارستها منظمات نسوية وحقوقية، إلا أن الكثير من الصحف لم تتوقف عن توظيف قضيتها لاستقطاب الجمهور بالبث المباشر، بإجراء لقاءات مع الناس في الشارع على هيئة استفتاء رأيهم في عودتها للوظيفة من عدمه ورسائلهم لزوجها السابق، طالما أن “التريند” يدور حولها ولم يتوقف بعد.
وتستفيد الصحف من تقنية البث المباشر في تحقيق الانتشار على الشبكات الاجتماعية، واستخدام التصريحات التي أدلت بها المصادر أو الضيوف، في صناعة أخبار مكتوبة على لسانهم لاحقا، واستغلال الفيديو بوضعه على الموقع لعرضه أمام الجمهور الذي يقوم بتصفح المحتوى الإخباري إذا لم يشاهده أثناء البث المباشر.
وتستسهل بعض المواقع فكرة البث عن استهلاك الوقت والجهد في عمليات التصوير والمونتاج والتعليق التي تحتاجها الفيديوهات التقليدية، ما يؤدي إلى إرسال صحافيين ومصورين غير مدربين إلى أماكن البث لمجرد مواكبة الحدث، فيقوم الصحافي بالتغطية الخبرية والتصوير والبث وإجراء اللقاءات في آن واحد، وهو ليس مدربا.

وانعكس تهافت الصحف على جذب الجهور بأي وسيلة على ضعف المحتوى المكتوب الذي تقدمه للقراء، طالما أنه بإمكان الموقع أن يحقق مشاهدات بالملايين من وراء فيديو واحد يتم بثه مباشرة، في حين أن أعظم خبر يمكن نشره ربما لا تتجاوز قراءاته بضعة آلاف، وهذه المعضلة ترتب عليها ضعف قوة تأثير هذه المواقع.
ولا يمانع متابعون للشأن الإعلامي مجاراة الصحف في مصر للتطورات التكنولوجية في مجال التواصل الاجتماعي في ظل تطبيقها عالميا وتحقيقها نجاحات كبيرة، لكن هناك فرقا بين مجاراة العصر وبين الاهتمام بشق وإهمال الآخر، فلا يصح أن يكون المحتوى المكتوب سطحيا ويبقى البث المباشر وحده هو الذي يخاطب الجمهور.
وأكدت ليلى عبدالمجيد أن التشويق في الإعلام الرقمي مطلوب، شريطة أن يكون جادا ومحترما ومفيدا ومهنيا، لأن استغلال القضايا المثيرة، مثل الجنس والخيانة والثرثرة والجرعات الترفيهية الزائدة لصناعة جماهيرية عبر تقنية البث يفقد الصحيفة رونقها وتأثيرها، فمن حق كل وسيلة أن تجذب الجمهور لمحتواها ليقرأ ويسمع ويشاهد، لكن الابتذال خطيئة يتحمل مسؤوليتها عدم تدريب الكوادر الموكل لها مهام البث، وتمسك بعض القائمين على المواقع بتحقيق الانتشار على حساب المهنية.
ويبدو أن العائد المادي صار يتحكم بشكل أكبر في اهتمام الصحف بالبث على حساب المحتوى الرصين لجذب معلني منصات التواصل، لأن المحتوى المكتوب مهما بلغت إثارته لا يحقق المطلوب منه على مستوى الإعلانات، وإذا انصب الاهتمام على تحقيق عوائد اقتصادية فمن غير المنتظر تطوير المحتوى وتطبيق المعايير المهنية التي يمكن أن تنهي الفوضى في بعض وسائل الإعلام المصرية.