غياب الضوابط المهنية ينعش صحافة الإثارة في مصر

الهيئات الإعلامية تلتزم الصمت حيال فيديوهات أثارت غضبا شعبيا.
الثلاثاء 2024/07/30
نقابة الصحافيين تنأى بنفسها عن الجدل المثار

أفضى غياب الضوابط المهنية إلى انتعاش صحافة الإثارة في مصر، وسط تجاهل من الهيئات الإعلامية لما يدور من تجاوزات على الساحة، واختفى مسؤولو تلك الهيئات بعد أن داوموا على الحديث عما اعتبروه أخطاء تستحق المحاسبة.

القاهرة - عكس قرار النيابة العامة في مصر بفتح تحقيقات موسعة حول نشر مقاطع فيديو على بعض المواقع الإلكترونية تخص قضية شهيرة، حجم الغضب من غياب الضوابط المهنية في عدد من وسائل الإعلام، ما تسبب في عودة صحافة الإثارة إلى الواجهة مجددا، وصارت المحاسبة القضائية وسيلة للتعامل مع الأزمة.

وأمر النائب العام المصري بالتحقيق العاجل في نشر مقاطع فيديو خاصة بالقضية المعروفة إعلاميا بـ”سفاح التجمع”، وهي واحدة من أبشع الجرائم التي وقعت في مصر مؤخرا، وشغلت الرأي العام منذ الإعلان عنها، بعد الكشف عن سفاح تعمد قتل ضحاياه من الفتيات عقب إجبارهن على تعاطي المخدرات وممارسة الجنس معه.

وصُدم الرأي العام في مصر من انتشار مقاطع فيديو على بعض المواقع وتسريبها لاحقا على شبكات التواصل الاجتماعي، وقت أن كان السفاح يمارس الجنس مع ضحاياه، ثم يقوم بخنقهن وقتلهن، وتظهر في تلك الفيديوهات مشاهد مخلة، وأخرى دموية، لا تتفق مع الحد الأدنى من المعايير المهنية والأخلاقية للصحافة.

وعلى إثر حالة الغضب الجماهيري، قرر النائب العام فتح تحقيقات موسعة لسؤال القائمين على تلك المواقع ومعرفة كيفية حصولهم على الفيديوهات، ما يشكل جريمة ترتبط بإفشاء أسرار التحقيق والتأثير في القضاة المنوط بهم الفصل في الدعاوى، وتعهدت النيابة بمحاكمة مرتكبي تلك الجريمة على نحو عاجل.

حسن علي: نشر فيديوهات لضحايا في قضية منظورة قضائيا كارثة مهنية
حسن علي: نشر فيديوهات لضحايا في قضية منظورة قضائيا كارثة مهنية

والتزمت الهيئات الإعلامية المسؤولة عن إدارة المشهد الإعلامي في مصر الصمت التام، ولم تعلّق على القضية بحجة أنها مرتبطة بجريمة مخالفة للأعراف والمعايير المهنية ولا ترتبط بحرية الرأي والتعبير، ولم تتدخل نقابة الصحافيين لحماية المواقع التي نشرت تلك الفيديوهات أو يكشف المجلس الأعلى للإعلام موقفه من القضية.

ويفترض أن هناك مدونة سلوك، أعلنها مجلس تنظيم الإعلام تضمنت عشرات التوجيهات للصحف ترتبط بتغطية الجرائم، وشملت الابتعاد كليا عن الإثارة والألفاظ والمشاهد الجنسية، مع عدم انتهاك الخصوصيات أو استباق الأحكام القضائية، أو نشر أي مادة صحافية قد تؤثر على إجراءات العدالة.

وما يعرقل فرض ضوابط مهنية لصحافة الإثارة أن أخبار الجرائم لها أولوية عند الكثير من الصحف والمواقع الإلكترونية، لإدراك القائمين على إدارة بعض الإصدارات الصحافية أن الإثارة تجذب الجمهور، أما الموضوعات الجادة لا تلقى رواجا كافيا.

وأثار صمت الهيئات الإعلامية حول قضية الفيديوهات المسربة، حيرة البعض، وبدا أن ما حدث لا يرقى للتعليق أو التدخل، أو أن المخالفة المرتكبة بسيطة، مع أن هناك غضبا واسعا يستدعي تحرك تلك الهيئات للمحاسبة قبل أن تنتفض النيابة العامة.

ورغم أن التركيز الإعلامي على بعض القضايا والحوادث الشاذة تزايد منذ فترة، لكن مجالس تنظيم الإعلام لم تصدر عنها قرارات أو تعليقات واضحة على التجاوزات، واختفى مسؤولوها بعد أن داوموا على الحديث عما اعتبروه أخطاء تستحق المحاسبة.

ويرى مراقبون أن الغياب المريب للهيئات المنوطة بها إدارة المشهد الإعلامي وفرض الضوابط المهنية على مختلف المؤسسات بالأمر الواقع، ربما يقود إلى عودة الفوضى بشكل تصعب السيطرة عليه، لأن التدخلات السابقة بتوقيع عقوبات على المخالفين أحدثت نوعا من الردع وألزمت كثيرين بتطبيق المعايير المهنية المطلوبة.

المحاسبة القضائية للمواقع الصحافية المثيرة أصبحت بديلا أكثر صرامة أمام غياب المساءلة المهنية من جانب الهيئات الإعلامية

وثمة من يفسر الصمت الاضطراري للهيئات الإعلامية بأنهم مدفوعون إلى ذلك بعدما وجدوا أن مراكز القوى داخل المنظومة أقوى تأثيرا ونفوذا منهم، ولم تعد عقوباتهم قابلة للتطبيق، وهنا كفريق يرى منطقا في هذا التفسير عندما تكون العقوبات موجهة ضد صحف وقنوات تابعة لجهات حكومية.

وتكمن المشكلة في عدم تدخل الهيئات نفسها لضبط الإيقاع داخل بعض الصحف والمواقع المستقلة والخاصة، التي يفتقر أصحابها لنفوذ يعرقل تطبيق العقوبات عليهم، ما يعني أن مجالس الإعلام بلا أنياب أو استسلمت وغير قادرة على ضبط المشهد.

ويدافع بعض الصحافيين بأن المحاكمات والقضايا الشاذة مادة خصبة لبعض وسائل الإعلام لاستقطاب الجمهور في ظل جمود يعتري جوانب من الحياة السياسية، ووجود تضييق تعاني منه بعض المنابر في ما يتعلق بمناقشة موضوعات وملفات تشعر بأنه محظور الاقتراب منها، لكن ذلك لا يبرر تدني المهنية ومخالفة القانون.

ميزة كواليس المحاكمات القضائية المثيرة بالنسبة إلى الإعلام، أنها مادة صحافية يصعب أن تصل لجمهور مواقع التواصل سوى من خلال منبر إعلامي، عكس الأخبار التي يتم التعرف عليها من دون حاجة إلى صحيفة أو موقع أو برنامج تلفزيوني، بحكم أن الكثير من المؤسسات تنشر أخبارها على المنصات.

ويبدو أن المحاسبة القضائية للمواقع الصحافية المثيرة أصبحت بديلا أكثر صرامة أمام غياب المساءلة المهنية من جانب الهيئات الإعلامية، ما يعبر عن امتعاض دوائر رسمية مما يحدث من انفلات في بعض وسائل الإعلام، فلا يُعقل استمرار سيطرة أخبار الاغتصاب والقتل والخطف على السياسية التحريرية في بعض الصحف.

الغياب المريب للهيئات المنوطة بها إدارة المشهد الإعلامي وفرض الضوابط المهنية على مختلف المؤسسات بالأمر الواقع، ربما يقود إلى عودة الفوضى بشكل تصعب السيطرة عليه

تثير طريقة عرض بعض الصحف والمواقع للجرائم الشاذة، علامات استفهام عديدة، فلم تعد تفرق بين حق الناس في المعلومة المرتبطة بحادثة مروعة، وبين قيامها بالتحريض على ارتكابها، إذ يتم نشر كل التفاصيل حولها بشكل ربما يجعل البعض يتعاطف مع المتهم / المتهمة، وقد يكرر نفس الفعل الإجرامي.

يقول خبراء إعلام إن محاصرة الانفلات يتطلب شجاعة من الهيئات الإعلامية ومحاسبة فورية لا تسمح للحكومة بأن تتحرك منفردة، عبر محاكمات يتم تبريرها بأن غياب المهنية يقود إلى جرائم في النشر، وما لم تتحرك الجهات المنوط بها إدارة المشهد، فإن الفوضى في مجال الإعلام سوف تصل إلى مرحلة خطرة.

وأكد حسن علي رئيس جمعية حماية المشاهد المصري وأستاذ الإعلام بجامعة السويس شرق القاهرة أن التصدي للإثارة سيظل صعبا طالما غابت العقوبات المهنية الصارمة، واستمر بعض مسؤولي وسائل الإعلام على اقتناع بأن المحتوى غير المألوف بوابة شهرة لمنابرهم، تحت مبررات واهية بأن ذلك ما يطلبه الجمهور بلا اكتراث بأن الناس أصبحوا شغوفين بالبحث عن إعلام مهني.

وأضاف علي في تصريحات لـ”العرب”أن نشر فيديوهات لضحايا في قضية منظورة قضائيا كارثة مهنية، لكن الحادثة برمتها تعبر عن عدم تطبيق مواثيق الشرف الصحافي، وكأن هذه المبادئ تصدر ولا يلتزم بها كثيرون، والتهاون سوف يقود إلى اتساع رقعة الفوضى، وصعوبة السيطرة عليها في المستقبل القريب.

ويتفق عدد من العاملين في الإعلام المصري على أن مواجهة الإثارة والأخبار الشاذة بحاجة لجهات تمتلك صلاحيات قوية في المحاسبة، لأن هذه نقطة يمكن البناء عليها لإعلام مؤثر، وهذا لا علاقة له بحرية الرأي والتعبير، فتصحيح مسار المنظومة مطلب شعبي في ظل هيمنة التفكك على المشهد الإعلامي.

5