غياب الإستراتيجيات يعيق الاستثمار الزراعي في تونس

يجمع خبراء على أن إيقاظ مكامن الزراعة يشكل أكبر تحدّ أمام تأمين غذاء التونسيين، بالنظر إلى الصعوبات الكثيرة التي تعتري القطاع نتيجة غياب الإستراتيجيات المقنعة للاستثمار في تنمية المحاصيل وبناء جدار داعم للعاملين فيه، وفي ظل مشكلة الجفاف القائمة.
تونس - يواجه القطاع الزراعي التونسي تحديات شاقة أكثر من أي وقت مضى في طريق التأقلم مع مناخ أعمال متذبذب زاد من تكبيله شح التمويلات والتكاليف الباهظة التي يتكبدها العاملون في هذا النشاط الحيوي.
ويتعرض المزارعون لصعوبات كثيرة تعرقل تطور أعمالهم من أبرزها ضعف الاستثمار وتراجع الدعم الحكومي للمزارعين الشباب، فضلا عن غياب روح المبادرة، ما يطرح تساؤلات بشأن مراهنة الدولة على تنمية قطاع يحاول الصمود في وجه الأزمات.
ورغم كثرة التحديات في القطاع الزراعي والمشاكل الهيكلية والتهميش الذي يعيشه العاملون فيه، يعد القطاع الوحيد تقريبا الذي استمر في النشاط وفي تحقيق أرقام إيجابية.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن الزراعة تسهم بنحو 13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من أبرز القطاعات الإستراتيجية، حيث تشغل قرابة 13.4 في المئة من القوة العاملة النشيطة بالبلاد.
لكنها فقدت بريقها في السنوات الأخيرة نتيجة العديد من العوامل المتداخلة، من أبرزها مشكلة الاحتباس الحراري وشح التمويلات وتكاليف الإنتاج الباهظة.
ولإظهار أنها تعمل على إزالة الركام من أمام هذا القطاع، لجأت تونس إلى الاستعانة بمنظمة الأغذية والزراعة (فاو) من أجل مساعدتها على إقامة البعض من المشاريع وتمويلها.
وفي الأسبوع الماضي أبرم وزير الفلاحة محمود إلياس حمزة مع ممثل منظمة فاو في تونس فيليب انكرس اتفاقية لتمويل مشروعين جديدين في إطار مبادرة “الاستثمار الزراعي وإدماج الشباب في المنظومات الغذائية والزراعية”.
وذكرت الوزارة في بيان أن “المشروع الأول والمتمثل في فرص استثمار الشباب في أفريقيا يهدف إلى التسريع في توفير فرص عمل في مجالي الزراعة والتجارة الزراعية من خلال دعم قدراتهم في هذا الاتجاه”.
وأشارت الوزارة إلى أن “المشروع الثاني والمتمثّل في دفع الاستثمار في الزراعة والأنظمة الغذائية من قبل الشباب بغية تعزيز التنمية ودعم المنظومات الزراعية، يهدف إلى تعزيز التنمية المحلية ودعم المنظومات الزراعية في تونس”.
ولم يكشف الطرفان عن حجم التمويلات المقرر إنفاقها على هذين المشروعين، أو المناطق المشمولة باحتضانهما، أو عدد المستفيدين.
وفي مسعى آخر لدعم تنمية القطاع عقد حمزة جلسة عمل مع ممثلين من البنك الدولي والبنك الأوروبي للإعمار والبنك الأفريقي للتنمية والبنك الأوروبي للاستثمار لمناقشة سبل تطوير قطاع الحبوب وتوفير التّمويلات اللاّزمة لدعمه والنهوض به في تونس.
وقال وزير الفلاحة إن “دعم منظومة الحبوب يأتي في إطار خطّة متكاملة لإنجاز إصلاحات هيكليّة وتنظيميّة خاصة على مستوى حوكمة ورقمنة هذا النشاط مع التشجيع أكثر على البحث العلمي لترقية القطاع”.
وأضاف أن “الخطوة ستضمن تعزيز صمود منظومة الحبوب أمام التغيرات المناخية والحروب مثل الحرب الروسية – الأوكرانية”.
وتقول أوساط المزارعين إن تونس بحاجة ماسة إلى وضع إستراتيجية شاملة لتطوير القطاع ومعالجة الاختلالات التي يعاني منها والتي زادت بدرجة كبيرة خلال السنوات الماضية بسبب ارتباك السياسات الحكومية وتزايد وطأة التغير المناخي.
وعلى الرغم من أهميته في الاقتصاد المحلي، يقر الخبراء بأن القطاع لا يزال يعاني من تهميش كبير من قبل السلطات، حيث لم تسارع الهياكل التابعة لوزارة الفلاحة إلى تشجيع المزارعين الشبان عبر تقديم المنح والمساعدات والقروض.
ويأتي ذلك وسط تزايد المطالبات بضرورة القيام بدراسات معمقة في المجال وطرح الإشكاليات والحلول لإنقاذ الزراعة.
وأكّد منير العبيدي رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة في محافظة الكاف شمال غرب البلد أن القطاع قاطرة الاقتصاد، حيث تبلغ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة أكثر من 1.25 مليون هكتار، ولكن المزارعين في الأرياف مازالوا يقاومون رغم الصعوبات.
وقال لـ”العرب”، “علينا أن نفكّر في القطاع كرافد اقتصادي، وعلى الدولة أن تعمّق الدراسات حوله وتزيد تمويله، خاصة المزارعين الشباب، وتحسّن قانون الاستثمار والنقاش حول المحافظة على منظومات الإنتاج، في ظلّ الأزمة العالمية المتواصلة”.
وتابع “أغلب المزارعين متقدمون في السنّ (أكثر من 55 سنة)، وبالتالي علينا تشجيع الكفاءات الشابة بتبسيط الإجراءات وتكوينهم ومراقبتهم”.
وجراء تراكم الديون وارتفاع تكاليف الإنتاج لا يستطيع المزارعون الحصول على تمويلات، علاوة على تقصير الدولة في لعب دورها عبر التشجيع والتمويل وتسهيل الإجراءات الإدارية.
واعتبر محمد الهادي السليماني رئيس جمعية المزارعين التونسيين للتوجيه والتنمية، أن قانون الاستثمار الجديد الذي تم العمل به منذ العام 2016 لم يطبق منه شيء، كما أنه لا يتماشى مع الواقع الزراعي، وهناك تضييق على الاستثمار في القطاع.
وتابع قائلا لـ”العرب” إن “هناك صعوبات بيروقراطية وإجراءات إدارية معقدة، ما يجعل المزارعين الشباب يفضلون العمل بالإمكانات المتاحة وفي إطار غير شرعي، كما توجد على الورق امتيازات ومنح مادية لكن لم يتم التسريع في ذلك”.

وأشار السليماني إلى أن السيولة المالية للدولة غائبة وهذا ما يجعل المزارع يعاني، فضلا عن غياب الدعم الكامل للقطاع الزراعي في مرحلة ما قبل الإنتاج.
وليس ذلك فحسب، إذ يرى أنه لا يوجد تنظيم واضح للقطاع، وهناك تقصير من الدولة بغياب الإستراتيجيات. وأشار مثلا إلى ديون ديوان الحبوب الحكومي التي وصلت إلى 1.2 مليار دينار (381 مليون دولار).
وقال “هناك شباب يشتغلون بما توفر، لكنهم يواجهون صعوبات التمويل والدعم، وبالتالي لا بدّ من إعادة هيكلة القطاع وعلى الدولة أن تبادر بتمويل المزارعين لتوفير الغذاء والمراعي والمحافظة على عمليات الإنتاج وإنهاء مشكلة نقص البذور”.
5
ملايين هكتار مجموع الأراضي القابلة للزراعة في البلاد، لكن لا تُستغلّ منها سوى نسبة 24 في المئة
وتبدو الشراكة بين القطاعين العام والخاص والانفتاح أكثر على الأسواق الخارجية الجديدة لترويج المنتجات المحلية أحد الحلول العملية لترقية القطاع بما يعزز قدراته بشكل مستدام.
وتتواصل مشكلة الأراضي الزراعية غير المستغلة بسبب التعقيدات البيروقراطية، ما يمثّل عائقا أمام حل أزمة البطالة التي سجلت مستويات قياسية، حيث بلغت نسبة 15.3 في المئة.
وتقول وزارة الفلاحة إن مجموع الأراضي القابلة للزراعة في البلاد يبلغ نحو خمسة ملايين هكتار، لكن لا تُستغلّ منها سوى نسبة 24 في المئة.
وسبق أن كشفت دراسة حول الأمن الغذائي أنجزها المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية أن المنظومة الزراعية والغذائية في البلاد تواجه حزمة من الصعوبات تتعلق أساسا بضعف نسبة المكننة وتشتت الأراضي التي تعود ملكيتها إلى الدولة.
ووفق الدراسة، فإن نحو 350 ألف هكتار غير مستغلة بسبب النزاعات القانونية، و100 ألف هكتار تخضع لنظام الأوقاف (الأحباس)، و65 ألف هكتار أراض يستغلها أشخاص بطريقة غير شرعية، ما يعني أن 415 ألف هكتار غير مستغلة.