غياب الأمان الأسري يدفع مراهقين مصريين إلى الانتحار

الهروب من لوم العائلة بعد الإخفاق الدراسي يطال الكبير والصغير.
السبت 2025/02/08
التخلص من النفس انتقل إلى فئات أقل سنا

يرجع استشاريو الصحة النفسية وتقويم السلوك بالقاهرة تكرار وقائع انتقام الأبناء من أنفسهم خلال فترة الإخفاقات الدراسية إلى تراجع دور الأسرة أو التعامل بشكل خاطئ مع الأبناء في تلك المرحلة الحرجة، مشيرين إلى أن التحفيز الدائم حتى ولم لم يكن مشفوعا بالعنف يمثل عبئا نفسيا كبيرا. وينصح الخبراء الأسر بالاحتواء العائلي للأبناء خلال مرحلة الإخفاقات الدراسية وعدم تحميلهم مسؤولية الرسوب.

القاهرة - بين محاولات الانتحار بتناول حبوب سامة وتنفيذ عملية الانتقام من النفس بسبب انخفاض الدرجات في امتحانات نصف العام الدراسي، تنوعت مآسي بعض الأسر المصرية عقب إعلان نتيجة الفصل الدراسي الأول للمرحلة الإعدادية (المتوسطة)، ما أثار موجة غضب جراء تملّك اليأس والإحباط من بعض الأبناء وخوفهم من مواجهة آبائهم.

وكانت محاولات الانتحار في مصر حتى وقت قريب محصورة في شرائح مراهقة وشبابية، لضيق الحال والرسوب في البكالوريا أو الجامعة، لكن التفكير في الخلاص من النفس انتقل إلى فئات أقل سنا، مثل تلاميذ المدارس المتوسطة، وهو ما جرى في مصر مع انتحار ثلاثة بعد إعلان نتائج امتحانات الشهادة الإعدادية وإنقاذ آخرين.

وجرت أحدث واقعة لطالب بمحافظة المنوفية شمال القاهرة يبلغ من العمر خمسة عشرا عاما، حيث قام بإلقاء نفسه في مياه نهر النيل فور ظهور نتيجة الشهادة الإعدادية، ولم يحصل على الدرجات التي كان يطمح إليها، وتنتظرها أسرته التي اعتادت منه التفوق على الكثير من زملائه وأقاربه في نفس المرحلة الدراسية.

وتكررت الواقعة في محافظة المنيا جنوب مصر، بقيام طالبين بالانتحار قفزا في مياه النيل لحصولهما على درجات منخفضة، فيما شهدت مدينة كفر الدوار بمحافظة البحيرة، شمال مصر، محاولة انتحار طالبتين بعد رسوبهما في الامتحانات، حيث تناولتا أقراصا سامة بهدف إنهاء حياتهما لكن نجحت محاولات إنقاذهما.

وأقدمت مراهقة على الخلاص من حياتها بالقفز من مكان مرتفع في محافظة سوهاج، بجنوب مصر، وجرى إنقاذ حياتها، مع أن عائلتها اعتادت أن تحفزها على التفوق الدراسي وتوفر لها كل احتياجاتها، وشعرت أنها لم تكن على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقها من قبل أبويها فحاولت الاعتذار لهما عن طريق الانتحار.

إلا أن مشكلة بعض الأسر المصرية تتجسّد في أنها لم تكترث بعد بأن الاحتواء العائلي للأبناء ليس خيارا، بل ضرورة حتمية خلال مرحلة الإخفاقات الدراسية، وعلى الرغم من وجود وقائع عدة لغياب هذا الاحتواء، إلا أن هناك آباء يعتقدون أن أولادهم يصعب عليهم التفكير في مسار الانتحار بحكم نمط التربية داخل الأسرة، ثم يُصدمون بالكارثة.

وفسّر استشاري الصحة النفسية وتقويم السلوك بالقاهرة محمد هاني تكرار وقائع انتقام الأبناء من أنفسهم خلال فترة الإخفاقات الدراسية بتراجع دور الأسرة أو التعامل بشكل خاطئ مع الأبناء في تلك المرحلة الحرجة، بأنه قد لا يكون الأب أو الأم يتعاملان بعنف لفظي أو جسدي أو يصران على التحفيز دائما، وهذا عبء نفسي كبير.

وربما لا يستطع الابن التأقلم مع التحفيز الأسري ما يجعله يلجأ إلى إلحاق الأذى بنفسه هربا من أيّ عتاب أبوي، لذلك يميل الطب النفسي غالبا إلى اعتبار أن الكثير من حالات الانتقام من النفس في هذه المرحلة سببها ضغوطات عائلية، ولو كانت إيجابية مثل زيادة جرعة الدعم والتحفيز وانتظار التفوق الكاسح من الابن بما يفوق قدراته.

قال الاستشاري النفسي لـ”العرب” إن المشكلة الأكبر عند الأسر التي تتعامل مع الابن باعتباره المسؤول عن تحقيق طموحاتها في المستقبل، بأن يتفوق ويكون مثاليا ثم يلتحق بكلية مرموقة وبعدها وظيفة مضمونة، ما يضع ضغوطات لا يتحملها المراهق أو الشاب، ويدفعه للتفكير في الهروب الأبدي.

◙ مشكلة الأسر المصرية أنها لم تكترث بعد بأن الاحتواء العائلي للأبناء ضرورة حتمية خلال مرحلة الإخفاقات الدراسية

وتوجد شريحة من المراهقين يطاردهم الإحساس بأنهم سوف يفشلون ويتوقعون الإخفاق قبل النجاح ويقتنعون أنهم مهما فعلوا لن ينالوا رضاء آبائهم، أو مواجهتهم بحقيقة ضعفهم، وهنا يأتي دور الأسرة بتشجيع الأبناء على تجاوز التراجع في التحصيل الدراسي بما يجنبهم الانتقام من أنفسهم للإحساس بالخوف من مواجهة العائلة.

ويغيب عن بعض الأسر أنه لا نتائج إيجابية أو تحقيق أيّ تفوق دراسي مع استمرار سياسية التهديد والوعيد، بقدر ما تكون المساندة الأبوية هي الدافع الأول لإعادة بناء الثقة في نفسية الأبناء وحثهم على التميز والسعي طوال الوقت لرد الجميل لأسرتهم التي ساندتهم وقت الفشل، وحصنتهم من التفكير في أيّ خطوة انتقامية تجاه أنفسهم.

ويرى متخصصون في شؤون تربية الأسرة أن التحفيز الزائد في حالة التقصير سهوا أو عمدا، وتنشئة الابن على أن مستقبل الأسرة مرهون بنجاحه، قد يدفعه للتفكير في الهروب بعيدا، ولو بالانتقام من نفسه، لأنه في حالة الإخفاق يراوده الإحساس بأنه مكروه أو سيواجه حالة من الغضب لن يستطيع معها تبرير فشله.

كما أن كثرة الضغط على الأبناء للحفاظ على مستقبلهم الشخصي يجعلهم يشعرون بأنهم فاشلون من وجهة نظر آبائهم، ما يولّد لديهم إحساسا أن حياتهم ليس لها معنى لأنهم لا يستحقون تلك الثقة، وربما مع الوقت يكونون منبوذين داخل العائلة لذلك لا يُمانعون في التفكير في أذى أنفسهم للهرب من ذنب الإخفاق.

والمعضلة أن وقائع انتحار الشباب لم تعد تثير رهبة الصغار والمراهقين، بل أصبح الأمر أقرب إلى التقليد الأعمى جراء تركيز بعض وسائل الإعلام على تلك الحوادث وتقديم مبررات لها، إما بضغوط نفسية أو إخفاق دراسي، ما جعل بعض الصغار يقتنعون بأنه طالما توافرت مبررات الانتحار، فلا مانع من خوض التجربة.

وقال الاستشاري محمد هاني إن هناك نمطا في التربية قد يجعل بعض الأبناء مستعدين لمواجهة الموت إذ يعتبرونه أهون من نقد آبائهم وتزداد المشكلة عند المراهق العصبي بالفطرة، حيث يراوده إحساس بالتوتر خوفا على مستقبله الذي يرسمه الأب والأم، ومع الوقت تزداد الضغوط بمقارنة مستوى الابن بأبناء الجيران والأصدقاء المتفوقين.

كما أن تشجيع الأبناء غالبا ما يكون بدافع أبوي لتأمين مستقبلهم، لكن الخطورة في أن يحدث ذلك بشكل متهوّر وبلا مراعاة لطبيعة شخصية الابن، والأثر النفسي الواقع عليه، ويتحول التحفيز مع الوقت إلى أداة ضغط تقود إلى اليأس والاقتناع بالفشل ولو كان الابن متفوقا، لكنه لم يصل إلى مرحلة الرضاء التام لوالديه.

وتظل العبرة في تجنيب الأبناء مسار الأذى النفسي في إيجاد آلية وطريقة تجعلهم يتعاملون مع آبائهم بأريحية، بحيث تكون هناك لغة حوار وتفاهم وصداقة مشتركة، وحتى إذا أخفقوا يكون التحفيز هادئا وعقلانيا كي لا يجد الابن نفسه مدفوعا للهروب خوفا من اللوم والعقاب والمقاطعة أو يواجَه بخطاب أسري محمّل بالكراهية والتوبيخ.

تلك مسؤولية الأسرة، وعليها أن تتعامل مع الأبناء وقت الإخفاقات الحياتية بالدعم والاحتواء ما يجنبهم الانتكاسات النفسية، لأن المراهق بطبعه إذا شعر بأنه لم يكن يستحق ما أنفقته عليه عائلته فلن يُسامح نفسه، عكس ما إذا شعر بالطمأنينة من ناحية أسرته وأنها ستتقبل إخفاقه المؤقت، فسوف يخرج من كبوته ولديه عزيمة على النجاح.

15