غياب الأمان الأسري يدفع الأبناء إلى الانتحار

انتحار فتاة بسبب الابتزاز الإلكتروني يتحول إلى قضية رأي عام في مصر.
الاثنين 2022/01/10
احتواء الأسرة لأبنائها يقلل الضغوط عليهم

تعد الضغوط المسلطة على الأبناء من طرف الأسرة سببا مباشرا لإقدامهم على الانتحار، وينتظر الأبناء من آبائهم أن يكونوا مصدر مساندة ودعم نفسي لهم عند الأزمات، لذلك يصابون بالخيبة لما يتخلون عنهم ما يولّد لديهم شعورا بالرفض، فيصابون بالاكتئاب ويصبحون عاجزين عن مواجهة أزماتهم النفسية التي تنتهي بهم في بعض الأحيان إلى الانتحار.

القاهرة – أحدث انتحار طالبة مصرية في العقد الثاني من عمرها صدمة مجتمعية بعدما أقدمت على التخلص من نفسها هربا من الضغوط النفسية الواقعة عليها من الأهل والأصدقاء، إثر قيام شابين بتركيب صور تظهرها منحلة أخلاقيا، وبعد أن فشلت في إقناع المحيطين بها بكونها فتاة ملتزمة قررت إنهاء حياتها.

وأعلنت النيابة المصرية مؤخرا فتح تحقيق في الحادث عقب انتشار صور مخلة (مفبركة) من جانب شخصين أوقفتهما وزارة الداخلية لاحقا.

وتلقت النيابة بلاغا في الخامس والعشرين من ديسمبر الماضي من والد الفتاة بسنت خالد قال إنها تناولت قرصا لحفظ الغلال “سام” متأثرة بنشر صور مخلة منسوبة لها وانتشارها في القرية التابعة لأحد مراكز محافظة الغربية في شمال القاهرة، محل إقامتها، قبل أن تتوفى في اليوم التالي.

وكان شخصان اخترقا هاتف الفتاة وحصلا منه على صورها الشخصية ووضعاها على جسدِ فتاة عارية، وقدمت شقيقتها للنيابة هاتف الفتاة المنتحرة ورسالة تركتها قُبيل وفاتها تؤكد فيها أن الصور لا تخصها.

وانتشرت صور للفتاة بسنت بعد أن حاول أحد الشباب ترهيبها نفسيا والضغط عليها لتقيم معه علاقة عاطفية، لكنها رفضت، وأمام تمسكها بموقفها قام بتزوير الصور وتوزيعها بين أبناء القرية لتشويه سمعتها.

الدعم الأسري للأبناء وقت الأزمات إذا تأخر قد يقود إلى كارثة، ويكون الانتحار من أسهل الوسائل للهرب من الضغوط النفسية

وعقب مواجهة بين الفتاة ووالدها ووالدتها أنكرت علاقتها بالصور المنسوبة لها وأقسمت على حُسن أخلاقها وتربيتها، لكن أسرتها لم تقتنع بكلامها، فدخلت الفتاة في حالة اكتئاب وقررت الانتحار تاركة رسالة عتاب لأمها التي لم تصدقها، قالت فيها إنها “محترمة وبريئة من الصور، ولم تستطع التغلب على اكتئابها وانهيارها نفسيا”.

وتحولت الواقعة إلى قضية رأي عام على شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، وصارت حديث وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية التي طالبت بتغليظ عقوبة الابتزاز الإلكتروني، وحملت الكثير من الأوساط أسرة الفتاة جزءا من مسؤولية انتحارها، لأن عائلتها كان من المفترض مساندتها في هذه الأزمة ودعمها نفسيا.

وقال خبراء في علم النفس إن غياب الأمان من جانب أفراد أسرتها وعدم شعورها بأنهم يصدقون براءتها من الصور الفاضحة المنسوبة إليها ترك بداخلها ضغوطا نفسية مضاعفة، لأنها عندما بحثت عن الأمان والاحتواء من أقرب الناس إليها لتتجاوز الصدمة وتشعر بالراحة والطمأنينة فشلت، ولذلك تخلصت من نفسها لتستريح.

وانتقد كثيرون تعامل عائلة الطالبة مع أزمتها برعونة والتراخي في بث الطمأنينة في قلبها وتقويتها لمواجهة حالة الترهيب التي تتعرض لها من زميلاتها في المدرسة والمتعاملين معها في المحيط الخارجي حتى صارت عاجزة عن مواجهة من يتنمرون عليها ويشككون في أخلاقها.

صحيح أن والد الفتاة خرج وتحدث للإعلام عن أن ابنته على خلق ولا يمكن لها ارتكاب أيّ فعل مشين يتنافى مع تربيتها، لكن كلامه جاء بعد فوات الأوان، حيث تخلصت من حياتها، ولو كان تعامل بنفس الجدية مع ابنته واحتواها وبث بداخلها الطمأنينة وجعلها تواجه كل المحيطين بشجاعة لما أقدمت على الانتحار.

وأكد جمال فرويز استشاري الصحة النفسية وتقويم السلوك بالقاهرة أن الفتاة المنتحرة بسبب الابتزاز الإلكتروني وتشويه صورتها، تعرضت لضغوط أخفقت محاولاتها في التغلب عليها وحدها، وقد تكون شعرت بأنها فشلت في تبرئة نفسها أمام أسرتها ورأت أن انتحارها يثبت لها أنها أحسنت تربيتها.

وأوضح لـ”العرب” أن انتحار الأبناء غالبا ما يكون موجها للأسرة نفسها بأن تبعث الضحية لذويها رسالة بأنها هربت من نظراتهم وتأنيبهم المتكرر، بالتالي فالعبرة الأهم من هذه الحادثة أن الدعم الأسري للأبناء وقت الأزمات إذا تأخر قد يقود إلى كارثة، ويكون الانتحار وأذى النفس من أسهل الوسائل للهرب من الضغوط النفسية.

الأبناء عندما يتعرضون لأزمة نفسية يبحثون عن ردة فعل الآباء تجاههم
الأبناء عندما يتعرضون لأزمة نفسية يبحثون عن ردة فعل الآباء تجاههم

وذكر أن تكوين صداقات بين الوالدين والأبناء حائط الصد المنيع ضد الانهيار النفسي الذي قد يتعرض له الصغار في المحيط الخارجي، فيجب أن تكون الصراحة بين الطرفين موجودة طوال الوقت، خاصة وقت المشكلات الكبيرة، ودور الأسرة أن توفر الأمان لأولادها في فترات المراهقة وكسب ثقتهم، وأن تكون هذه الثقة متبادلة.

وما يلفت الانتباه أن أغلب الأصوات ركزت على مخاطر الابتزاز الإلكتروني للفتيات ورعونة العقوبة المطبقة، وتناست أن الأزمة الأكبر ترتبط بغياب الأمان الأسري الذي قد يدفع ضحايا الابتزاز والتشهير إلى الانتحار، وغابت النقاشات المرتبطة بدور الأسرة في مثل هذه الظروف لأن التنمر في مصر ظاهرة تصعب السيطرة عليها.

ويعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية أنه بغض النظر عن طبيعة الابتزاز الذي قد يتعرض له الأبناء، فالعبرة بموقف الأسرة نفسها وطريقة تعاملها مع الابن أو الابنة الضحية، لأن المجني عليه (عليها) يكون بحاجة ملحة لدعم أسري غير محدود يعينه على مواجهة الأذى الذي يطارده نتيجة الابتزاز.

وأكد عادل بركات الباحث والمحاضر في شؤون التربية الأسرية بالقاهرة أن رعونة الأهالي في التعاطي مع الأبناء عند تعرضهم للأذى النفسي من الآخرين تصيبهم بصدمات نفسية وحالات اكتئاب يصعب عليهم تجاوزها بسهولة، فهم ضعفاء ويائسون من الحياة، لكنهم يبحثون عن الاستقواء بالطرف المقرب منهم، مثل الأسرة، وإذا انعدمت الطمأنينة الأسرية فإن ذلك يقود للانتحار بسهولة.

وأشار لـ”العرب” إلى أن الأبناء عندما يتعرضون لأزمة نفسية يبحثون عن ردة فعل الآباء تجاههم، فإذا كانت بنفس الأذى الواقع عليهم خارج المنزل يفقدون الأمل في الحياة ويفكرون في أذى أنفسهم كرسالة احتجاج ضد كل الأطراف، في مقدمتهم الأهل، لأنهم خذلوهم ولم يقدموا لهم الدعم المطلوب، وعكست واقعة انتحار الفتاة الدور المحوري للأسرة وقت تعرض الأبناء لمشكلة تتطلب الأمان على وجه السرعة.

وكثيرا ما وقعت حالات انتحار لأبناء بسبب تعرضهم لمشكلات شخصية ويقدمون على التخلص من أنفسهم خوفا من ردة فعل الأسرة، حيث يصبحون مستعدين للموت أفضل من مواجهة آبائهم، أو يتعرضون لكلمات جارحة من الأهل في ذروة احتياجهم للدعم النفسي والمساندة لعبور الأزمة الحاصلة.

وهذا جزء من التربية القائمة على الترهيب التي تعكس تراجع العلاقة القائمة على الصداقة والعاطفة بين الآباء والأبناء، حيث يخشى الابن مصارحة أبويه بالحقيقة، أو إثبات براءته أمامهما، وربما يضحي بنفسه حتى لا تصطدم فيه أسرته، وهذا عبء نفسي خطير لا يدرك الكثير من الأهالي تبعاته السلبية على معنويات الصغار ووصولهم بسهولة لمرحلة من الانهيار النفسي والإحباط لدرجة تدفعهم إلى الانتحار كنوع من إثبات البراءة أمام كل الأطراف.

17