غزة وهندسة الموت

الحرب وصلت إلى التجويع المتعمد. نشاهد يوميًا صورًا مروعة تأتي من غزة لأطفال نهشهم الجوع حتى أصبحوا هياكل عظمية بفعل الحصار وشح الطعام والماء ومنع الدواء عنهم.
الجمعة 2025/04/11
إنها الحرب بكل تجلياتها

لا يبدو الوضع في غزة على ما يرام؛ القصف من كل حدب وصوب، أجساد مزقتها آلة الحرب وتطايرت في السماء، وأبنية سُوِّيت بالأرض. فقرار الحرب صعبٌ على أصحاب الألباب والعقول النيرة المفكرة، فهي التي تحسب المسافات جيدًا وتُقدِّر الربح والخسارة.

وحتى لا نغوص كثيرًا في مآلات الحرب على غزة، وقد تطرقتُ في مقالة سابقة إلى نتائج الحروب وما يحقق المراد، فإن السابع من أكتوبر كان من أجل الأسرى والمسرى. النتيجة: ضيَّقت إسرائيل الخناق على القدس والأقصى، وزادت عدد الأسرى الفلسطينيين إلى ضعفين ويزيد. المحصلة: الإبادة والإمعان في قتل الأبرياء.

يشرح جوناثان كوك ما يُطلق عليه “هندسة الموت” التي تقوم بها إسرائيل، والتي تعتمد على التطهير العرقي والإبادة والتجويع. لقد هندست إسرائيل مجاعة في غزة بهدف تجويع سكانها حتى الموت ودفعهم للخروج منها. وقد تضمنت مذكرة الاعتقال التي أصدرها المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية اتهام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بطرد السكان باستخدام المجاعة المخططة، وهذا يشكل جرائم ضد الإنسانية.

المفروض أنّ العربي للعربي كالبنيان يرص بعضه بعضا، لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم، ولا يهابهم عدوهم، إلا بالتضامن والتعاون فيما بينهم على البر والتقوى، والتكافل والتناصر، والتناصح والتواصي بالحق والصبر

نجد أن الغزيين تقلبوا على جمر الجوع ومروا بمراحل العوز وعدم توفر الطعام، بدءًا من الجوع إلى المسغبة والمخمصة. أصناف العذاب بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فحرب الجوع أشد فتكًا بالإنسان، لا يوازيها شيء إلا قذائف الطائرات والمدفعية.

بعد كل هذه المشاهد المؤلمة، ماذا ينتظر العالم؟ للأسف، العالم بشقيه الغربي والعربي في سبات. فالدولة المارقة “إسرائيل” ما زالت تمعن في أساليب القتل بأنواعه: السلاح الفتاك والطائرات المحملة بالسلاح المحرّم دوليًا، والتي تقذف حممها على رؤوس الآمنين في قطاع غزة.

وقد وصلت الحرب إلى التجويع المتعمد، نشاهد يوميًا صورًا مروعة تأتي من غزة لأطفال نهشهم الجوع حتى أصبحوا عبارة عن هياكل عظمية بفعل الحصار وشح الطعام والماء ومنع الدواء عنهم.. إنها الحرب بكل تجلياتها.

من يقرأ في التاريخ بعناية وتأمل، سيجد أساليب التفنن في القضاء على شعب أعزل لا حول له ولا قوة منذ النكبة حتى يومنا هذا. فأخبار النكبة حملت لنا الكثير عن المجازر التي ارتُكبت ضد الشعب الفلسطيني. هذا يعني حربًا بلا أخلاق بكل المقاييس. عندما تُدك خيم النازحين بأقوى الأسلحة الفتاكة، فهذا يدل على أنها حرب المراد منها القضاء على الوجود الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية.

وهذا يذكرنا بما قاله نتنياهو في مقولته الشهيرة بعيد 7 أكتوبر. ملخص الحديث: علينا أن ندعوهم للاستسلام، وإذا أبوا فلن يبقَ منهم شيخ، ولا امرأة، ولا طفل، حتى دوابهم. هذا هو سلاح توليفة نتنياهو اليميني العلماني الذي التقى مع اليمين الديني في مشروع تصفية الوجود الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.

في تسريب أخير لبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، وضّح فيه خطته المستقبلية لضم الضفة الغربية وتهويدها وتجويعها، كما يحدث اليوم بمنع دخول العمال الفلسطينيين لفلسطين التاريخية وقرصنة أموال المقاصة الفلسطينية. وقال إن تحويل إدارة الحكم في الضفة الغربية إلى الإدارة المدنية الإسرائيلية هي خطوة من شأنها أن تنسف كل الجهود الساعية لإقامة دولة فلسطينية.

الحرب الدائرة اليوم في غزة هي حرب أميركية – إسرائيلية مكشوفة المعالم، تهدف لحماية الدولة الوظيفية من خطر الانقراض والعالم العربي بين نقيضين، نقيض يقيم حفلات الرقص، والنقيض الآخر تقرع له الطبول إيذانا بقصفه

لقد جاءت خطوة الزعيم المتطرف في حكومة نتنياهو بعد ما شاهدنا وسمعنا عن اعتراف مجموعة دول غربية بالدولة الفلسطينية. سموتريتش ونتنياهو في سباق من أجل قضم الضفة الغربية وإعادة احتلال المناطق المصنفة (ب).

المشهد اليوم حرب تشنها إسرائيل على الكل الفلسطيني، وتمعن أكثر في قطاع غزة، الهدف حماية وجودها من خطر أحدق بها بعد 7 أكتوبر، على حد تعبيرهم. ومجمل القول الحرب الدائرة اليوم في غزة هي حرب أميركية – إسرائيلية مكشوفة المعالم، تهدف لحماية الدولة الوظيفية من خطر الانقراض والعالم العربي بين نقيضين، نقيض يقرع الطبول ويقيم حفلات الرقص، والنقيض الآخر تقرع له الطبول إيذانا بقصفه.

المفروض أنّ العربي للعربي كالبنيان يرص بعضه بعضا، لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم، ولا يهابهم عدوهم، إلا بالتضامن والتعاون فيما بينهم على البر والتقوى، والتكافل والتناصر، والتناصح والتواصي بالحق والصبر.

قال الماوردي صاحب كتاب “الأحكام السلطانية”، “ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته.”

وبالفعل، لقد بات شعورنا مجمدا بفعل آلة التفتيت الأميركية – الإسرائيلية.. كان حلما أن نرى شرقا واحدا/ لكن من الأحلام ما يتوقع (علي الجارم). هذا ما يحدث اليوم، عالمنا العربي بأمزجة وأطعمة مختلفة، وحروب دامية قطّعت أوصالنا.

9