غرافيتي ضوئي يحيل جدران القاهرة إلى مهرجان بصري

الفنان الإيطالي كارمينيه كارتولانو: الواقع يمكن أن يصبح أفضل والمفتاح هو الإنسان.
الأحد 2020/03/08
غرافيتي يزيل بيروقراطية مجمع التحرير في أجواء حالمة

اختتم الفنان الإيطالي كارمينيه كارتولانو قبل أيام، معرضا غرافيتيا متخيلا لفنانين كلاسيكيين عالميين ومصريين في شوارع القاهرة، بعث من خلاله رسائل عدة عبر توظيف غير شائع للمخيلة، فيما لا يزال المعرض قابلا للتطوير في مشاريع أخرى بعرضه في كتاب أو نقله إلى الشارع.

استوقفت صور لواجهة بنايات في منطقة وسط القاهرة مرسوم عليها غرافيتي لفنانين من هوليوود نشطاء على موقع فيسبوك. البعض تساءل عن عناوينها بالضبط لقصدها والتقاط صور إلى جوارها، وآخرون تعرفوا على الأماكن بمفردهم وعلقوا على ما اعتبروه “زيف الصور”، أحدهم دوّن على صفحته “كنت في جوار ذلك الحائط حالا هو كما هو”.

بالفعل لم تكن الصور مرسومة على واجهات البنايات القديمة الباهتة، بل صنعتها مخيلة الفنان الإيطالي كارمينيه كارتولانو، ليُطرح سؤال على نحو غير مباشر: ماذا لو كانت تلك الصور موجودة؟ ماذا لو وُظفت لمسات بسيطة لإضفاء حيوية وحياة ومعان تكسر صمت الجدران، والحالة في القاهرة، خصوصا أن بقاء الواجهات صماء باهتة كئيبة عادة لا تعرفها المدن الإيطالية.

تعمق ذلك التساؤل في وجدان الإيطالي الذي يقيم في القاهرة منذ سنوات، حتى قرر التوسع في فكرته وتنظيم معرض لها، وأراد بها تجسيد الحالة المتناقضة للقاهرة، والتي يقول عنها لـ”العرب”، “أحب القاهرة جدا، هي مختلفة وتحمل الشيء ونقيضه في آن، أهلها يلقون المزاح على مصائبهم، يضحكون وهم يبكون، حتى الزحام والجدران الباهتة تتناقض مع تاريخها القديم وذهنيتها. القاهرة حالة من نوع خاص”.

قصد كارمينيه في البداية وضع صور كلاسيكية لنجوم هوليوود وجدها بالمصادفة من مجلة اقتناها من سور الأزبكية (مخصص لبيع الكتب القديمة)، وبها يعكس القاهرة وهي لا تحمل بصمة عالمية في صناعة السينما، كساحة للاحتفاء والتكريم والصلة مع النجوم الكلاسيكيين للسينما العالمية.

وأوضح أنه رأى بسطاء قاهريين يسعون خلف لقمة عيشهم، في إطار واحد مع نجوم هوليوود وهو وجه آخر للتناقض، يعمق الحالة، ويتجاوز خصوصيتها القاهرية للتماثل مع مدن عدة.

الصورة تحتضن الواقع

عمل يرصد التناقضات في القاهرة
عمل يرصد التناقضات في القاهرة

في إحدى الصور، وهي لرجل يعمل في جمع القمامة استلقى على ظهر أحد صناديقها الكبيرة في غفوة قصيرة للراحة من عناء اليوم، وضع كارمينيه صورة النجمة العالمية كاثرين هيبورن ويدها تبدو كما لو كانت تحتضن ذلك العامل البسيط وكأنها تخفف عنه عناء اليوم.

وأشار كارمينه لـ”العرب”، إلى أن كافة الصور التي وظفها في المعرض التقطها بنفسه، بهاتفه الخاص على نحو عفوي، لتأبيد مشاهد معينة تلفت انتباهه، في ظل رغبته في حفظ روح القاهرة على مدار سنوات، ولم تكن فكرة المعرض جالت بذهنه وقتها.

مثل رحيل الفنان المصري عزت أبوعوف، مطلع يوليو الماضي، نقطة تحول في مشروع كارمينيه، وبوابة لتضمين النجوم المصريين في المشروع، حيث صمم الفنان الإيطالي غرافيتي له في جانب أحد الجدران، فقفز التفاعل أضعافا مع الفكرة.

قال كارمينيه لـ”العرب”، “صورة أبوعوف علمتني درسين، الأول عمق علاقة المصريين بالدين، حيث بدأ التفاعل بهجوم حاد على الصورة، لأنني وضعتها سهوا في البداية على جدار مسجد، ما دفعني لتغيير موضعها، والثاني هو الارتباط العاطفي الشديد لدى المصريين مع نجومهم السينمائيين وحنينهم إليهم”.

صورة جديدة

سيدة الغناء العربي أم كلثوم
سيدة الغناء العربي أم كلثوم

ووفق ذلك، تزاملت سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وسندريلا الشاشة سعاد حسني، والدونجوان رشدي أباظة، وسيدة الشاشة فاتن حمامة والنجم العالمي عمر الشريف والنجمان نور الشريف وبوسي، مع نجوم هوليوود في رسم صورة جديدة للقاهرة داخل مخيلة الإيطالي. نال المعرض الذي استمر على مدار نحو أسبوعين في غاليري المشربية في منطقة وسط القاهرة إعجاب رواده، وبعضهم من فناني الغرافيتي الذين أعربوا عن استعدادهم لمعاونة الإيطالي في تحويل تلك الصور إلى حقيقة.

وفق الحالة البيروقراطية التي تحكم القاهرة، قد لا يكون الأمر يسيرا وقد يتطلب تصريحات معينة، وتسهيلات لتزيين جدران القاهرة الصماء.

وسبق أن زين عدد من طلاب كلية التربية الفنية جدران ميدان العباسية في القاهرة برسومات تشكيلية أضافت بهجة وروحا على المكان، وكانت مركزا لالتقاط الصور فيها، بمعاونة إدارة الحي.

تمنى الفنان الإيطالي في حواره مع “العرب”، أن يشهد مشروعه التحقق على الأرض، لكن ذلك ليس هدفه في ذاته، فهدفه الفلسفي تحقق بالفعل ورسالته وصلت بغرافيتي متخيل، مفادها “الواقع يمكن أن يصبح أفضل مما هو عليه، والمفتاح دائما هو الإنسان”.

اختار كارمينيه لوحة رومانسية حالمة لفاتن حمامة وعمر الشريف تخيلها على جدران مجمع التحرير في ميدان التحرير الشهير بوسط القاهرة، ليعتبرها الأقرب إلى قلبه، قائلا “أتمنى أن يجسدها يوما ولو ضوئيا”.

الرسالة تسبق الصورة

رسالته وصلت بغرافيتي متخيل، مفادها أن الواقع يمكن أن يصبح أفضل مما هو عليه، والمفتاح دائما هو الإنسان
رسالته وصلت بغرافيتي متخيل، مفادها أن الواقع يمكن أن يصبح أفضل مما هو عليه، والمفتاح دائما هو الإنسان

اختيار الصورة حمل دلالات إضافية على تأثير الخبرات الشخصية والتجارب في الاختيارات البشرية، فمن بين كافة المناطق التي جسدها كارمينيه في معرضه يعد مجمع التحرير الأثقل على نفسه.

ولفت لـ”العرب”، “أحضر إلى المجمع لتخليص أوراق رسمية خاصة بجواز السفر من وقت إلى آخر، رحلتي فيه ثقيلة ومرهقة عادة، ككل من يأتون إلى هنا. ذات ليلة ممطرة مررت بجانب المجمع ووجدت مشهدا بديعا، حيث انعكاس الأضواء في مياه المطر، التقطت الصورة ورحلت، ووظفتها لاحقا لأزيل كل ذاكرة ثقيلة عن المكان، وأذيب البيروقراطية في أجواء رومانسية حالمة”.

ونجح الإيطالي رغم أنه لم يدرس الفن، في تصميم الصور لتبدو كما لو كانت طبيعية وموجودة بالفعل منذ سنوات حتى نالتها تغيرات الزمن، مثلا تعمد ترك بعد الملصقات الانتخابية على الغرافيتي، وكذلك تغير لون الحائط، وزوال قشرته الخارجية.

كما نجح في توصيل رسائل عدة، فالرسالة عنده سبقت شخصية النجم السينمائي، حيث كان يضع تصورا لشكل الصورة التي يريدها ثم يبحث عنها، فمثلا صورة الفنان رشدي أباظة المفرغة من منطقة الصدر، صممها وهو يشعر بضيق، فأراد أن يعكس معنى زوال الهموم والانشراح بتلك الشرفة في المنتصف.

أما اختياره الأبيض والأسود فقال لإنه كان مقصودا أيضا، تمجيدا لتلك الحقبة الذهبية في تاريخ السينما العالمية والمجتمع، وتجسيدا لموجات الحنين إلى الماضي، من جهة، ومن جهة أخرى للبرهنة على أن الألوان ليست شرطا لتحقيق البهجة.

درس كارمينيه اللغة العربية في جامعة نابولي، ومن بين 8 طلاب آخرين لم يكمل الدراسة سواه، ثم بات مدرسا في الجامعة، وانتقل إلى القاهرة على اعتبار مصر الحالة العربية الأكثر زخما ثقافيا ومجتمعيا، وأطلق معرضين من قبل، وألّف عدة كتب وعمل على ترجمة أخرى.

تفاعل الجمهور مع المعرض
تفاعل الجمهور مع المعرض

 

13