غاستون باشلار: النظرية هي التجربة التي تتعلم من نفسها

في كتابه “خمسون مفكرا أساسيا معاصرا: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة” يرى جون ليشته في دراسته على مجموعة من كبار المفكرين الغربيين أنهم من أبرز منتجي وصانعي التيار البنيوي والتيار ما بعد الحداثي في مشهد الفكر الإنساني المعاصر. ومن هؤلاء تجربة المفكر الفرنسي غاستون باشلار صاحب كتب “شعرية المكان ” و”شعرية أحلام اليقظة” و”الفكر العلمي الجديد” والمعروف بنظرية القطيعة الإبستيمولوجية.
باشلار، وعلى حدّ ما ينقل عنه الباحث الجزائري جيلالي اليابس في تقديمه لكتاب ” الفكر العلمي الجديد” الذي ترجمه إلى العربية عادل العوا، يرى أن التجربة العلمية ماهي إلا تطبيق للعقل ونظرا لذلك فإنه يعتقد “وخلافا لما درج عليه ديكارت أن الأهم هو العقل” حيث “يذهب باشلار إلى إبراز ما للتجربة من أهمية قصوى”.
في هذا السياق ينطلق جون ليشته قائلا: “وهكذا لم يعد تاريخ العلم تعبيرا عن العقل، بل أصبح هو الذي يقوم ببناء الإطار الفكري لفهمه من خلال تكوينات معرفية”، ومن ثمة فإن التغييرات في التجربة أو الخبرة الحاضرة للمجتمع أو الفرد تغيَر معنى الماضي. لم يعد بإمكاننا أن نفهم الماضي كما هو في حدّ ذاته لأنه أصبح الآن يفهم من خلال اهتمامات وهموم الحاضر”.
العقلانية والواقعية
بخصوص العنصر الأول فإن باشلار يرى أن نظرية المعرفة هي التي “تتيح لنا فهم مغزى وأهمية المحاولات العلمية”، وهكذا نجده يميز بين مكانين أولهما “ننظر ونبحث ونتفحص فيه”، وثانيهما “نرى فيه”. فما هو إذن الاختلاف بينهما؟ يرى باشلار وفقا لشروح جون ليشته أن الاختلاف بين هذين المكانين يتمثل في أن “المكان الذي نرى فيه هو دائما مكان تمثيلي وليس مكانا حقيقيا، ولا يمكن لنا أن ندرك ذلك إلا بالرجوع إلى الفلسفة”، ولذلك يقترح باشلار اعتبار التمثيل بمثابة “الوسيط الطبيعي لتحديد العلاقات الخاصة بالشيء في حدّ ذاته وبالظاهرة”.
هناك تمييز آخر يريد باشلار توضيحه في ما يتعلق في الفرق بين العقلانية والواقعية. وفي هذا الصدد يبرز باشلار حسب تأويل الدارس ليشته أن العقلانية -التي تشمل الفلسفة والنظرية- هي ميدان التأويل والعقل، في حين أن الواقعية هي التي تزود العقلانية بالمادة المطلوبة لإعطاء تأويلاتها”، مما يعني في التحليل الأخير إن العلم ليس انعكاسا آليا للنظام الفلسفي، كما أن الواجب على العالم هو أن لا يعطي الامتياز للفكر أو للواقع، بل إنه من الضروري “الإقرار بالصلة الوثيقة بن الاثنين” بمعنى أنه “لا بدّ للتجريب من أن يذعن للبرهان والحجة، كما أنه لا بدّ للبرهان أو الحجة من أن يرجع إلى التجريب”.
الفكر متحول وناقص دائما ولا يكون أبدا معطى جاهزا مسبقا أو كاملا
تاريخ العلم
|
أشكال الخيال
فما هو الخيال إذن عند غاستون باشلار؟ إنه يعرّفه باختصار شديد هكذا: “هو الميدان الذي ترتع فيه الصورة (بمعنى المتصور)، ولذا يجب تميزه عن ترجمة العالم الخارجي إلى مفاهيم. إن الخيال ينتج صورا وهو في حدّ ذاته تلك الصور، في حين أن الفكر ينتج المفاهيم”، وهنا يرى باشلار تضافر العقلانية وما فوق العقلانية. فالخيال باعتباره ظاهرة فوق عقلانية هو الذي “يبعث الحياة في الصورة” على حدَ تعبيره ومن دون ذلك فإن “عالم الصور سيذبل ويموت” أيضا وبعبارة أخرى فإنه لو لم يكن هنالك شيء من “ما فوق العقلانية، لذبل الفكر ومفاهيمه أيضا بعد أن أعياهما مرض الاكتمال والبساطة”.
على أية حال فإن تحليلات جون ليشته لفكر باشلار تؤكد لنا أن هذا الأخير قد لعب دورا محوريا في تعبيد الطريق معرفيا لبعض الأفكار الأساسية التي أصبحت فيما بعد متداولة في قاموس البنيوية وما بعد البنيوية، أما العوامل التاريخية والاجتماعية أسهمت بدور فاعل في تكوين هذين التيارين الفكريين فلا يذكرها الدارس جون ليشته ولو بعجالة ولعل السبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى الفصل التعسفي الذي يقيمه بين المكونات التاريخية بما فيها تأثيرات الآخر غير الغربي وبين المكونات الإبستيمولوجية للتيارين البنيوي وما بعد البنيوي، وهذا موضوع مهم جدا ويحتاج فعلا إلى دراسة خاصة ليس هذا مكانها الآن.