غازي السعودي مؤسس فن الجداريات في العراق

يرحل المبدعون العراقيون فيتركون خلفهم شواهد فنية تؤكد عبقريّتهم، وتزين تاريخ العراق الفني الذي يظل شاهدا على إبداعاتهم، ومن هؤلاء الفنان غازي السعودي الذي وضع بصمته في فن الجداريات على أهم معالم وطنه، وستظل جدارياته شاهدة على أنه كان ولا يزال أحد رواد فن الجداريات في العالم العربي.
متوالية الخسارات للمبدعين في العراق ما زالت متواصلة وكل يوم تعلن عن فقدان وخسارة إحدى القامات الإبداعية الكبيرة، ففي يوم الخميس الثامن من يونيو الجاري رحلت قامة عراقية مهمة واستثنائية تميزت بتواضعها وعمق وأصالة منجزها الإبداعي المترع بالجمال، هو الفنان التشكيلي الكبير غازي السعودي الذي توفي عن عمر ناهز 88 عاماً، والذي يعد مؤسس فن الجداريات على الأسس الصحيحة في العراق.
الراحل الجليل غازي السعودي تميز بإنجازه العديد من الجداريات التي ما زالت شاخصة إلى اليوم وإلى ما شاء الله تعالى، مؤثثة بتاريخ وتراث بلاد الرافدين الحافلين بالرموز والعلامات والأيقونات المتنوعة، في منعطفات وزوايا وأركان وشواهد بغداد الحبيبة بجانبيها، الكرخ والرصافة، تصافح عيون المارة من مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية الذين نأى أهل الحل والعقد بمن فيهم زملاؤه وأقرانه من مختلف الأجيال وتلاميذه عن استذكاره أو تكريمه يوماً ما.
الفنان الراحل تميز بإنجازه العديد من الجداريات التي كانت مؤثثة بتاريخ وتراث بلاد الرافدين الحافلين بالرموز
الفنان الراحل الذي يعد أحد مبدعي الجيل الستّيني التشكيلي العراقي المعاصر رأى النور عام 1935 في العاصمة بغداد التي ترعرع فيها، لتختزن في مخياله شواهدها وشواخصها الحضارية والتاريخية والتراثية والفولكلورية الثرية.
خاض مسيرة دراسية أكاديمية مميزة ورصينة صقل فيها موهبته في الرسم والنحت، ففي عام 1953 - 1954 قُبل للدراسة في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وفي عام 1962 أرسل في بعثة دراسية إلى روما فحصل على شهادة اختصاص في فن الموزاييك من معهد روما، ومن ثم حصل على بكالوريوس في فن الفريسكو وفن الجداريات عام 1963، وعاد إلى بغداد ليعين مدرساً في معهد الفنون الجميلة، ومن ثم مدرساً لفن الجداريات في أكاديمية الفنون الجميلة، وأقام العديد من المعارض الشخصية والمشتركة والجماعية في بغداد من بينها أول معرض لجماعة الزاوية، وشارك في جميع معارض جماعة الانطباعيين العراقيين، وساهم في المعارض الوطنية التي أقيمت خارج العراق.
ينطوي سفره الإبداعي الأصيل على تنفيذ ست جداريات كبيرة في مداخل متنزه الزوراء وسط العاصمة بغداد، و”جدارية الزوراء” بالموزاييك في المدخل الثاني لمبنى فندق الرشيد المؤدي إلى قاعة الزوراء، و”جدارية بغداديات” في مدخل المتحف البغدادي، وأعمالاً وجداريات مهمة في عدد من القصور الرئاسية.
المراقب والمتابع لمسيرة غازي السعودي الفنية يلاحظ أن أعماله الجدارية تستمد موضوعاتها من تاريخ وحضارة وتراث العراق، حيث يستلهم ويوظف مفردات من البيئة المحلية والموروث الشعبي وحضارات بلاد الرافدين، واستخدام الألوان المعروفة والشائعة في البيئة العراقية، التي امتزجت برؤاه الخاصة التي أبدع فيها أيما إبداع، بمعالجة جمالية وظف فيها الرموز بطريقة متوازنة، متأثرا برسوم الواسطي لمقامات الحريري، ورسم المدينة ومشاهدها بطريقته وبرموزه الخاصة.
وتميز الفنان الراحل بتنوع أساليبه وخاماته كالموزاييك والصوف والقماش وغيرها، مواصلا طريقه نحو جمع كل مجالات الفن وجمالياته في بوتقة واحدة، ليكون واحدا من رواد حركة الفن الجداري في الوطن العربي، الذي برز فيه عدد من المبدعين الذين سجلوا حضورا بصريا نشيطا وساهموا في تفعيل حركة التشكيل العربي المعاصر، من خلال تنظيراتهم ورؤاهم وأنشطتهم الفنية والثقافية التي استمدوها من دراستهم لتاريخ الحضارات وفنونها، وفي مقدمتهم الفنان العراقي جواد سليم، والرسام فائق حسن، وفنان الجداريات غازي السعودي، وآخرون.
كما أن السعودي استطاع أن يخفف في جميع جدارياته من رتابة المشهد بالمعالجة الجمالية لمكوناته المزدحمة، وتتخلل فضاء لوحته كتل ومساحات لونية لا يكاد المشاهد أن يفرق بين وحداتها إلا حين يمعن النظر فيها محققاً رمزية الشكل من خلال رمزية اللون، مستثمراً اللون بعلاقاته المتنوعة بالخط والشكل والعمارة من خلال توظيف الرموز الحضارية، في تعبيره عن مدلولاته الفكرية والانفعالية والعقائدية، بإفصاح جمالي وحس مرهف يختلف عمن سواه من أبناء جلدته الفنية، مما منح المنجز قيمة تشكيلية وجمالية رمزية استثنائية، وأفلح في بعض لوحاته ذات الطابع الإسلامي بربط مضمون العمل الروحي بالبعد الجمالي للرموز الإسلامية التي لها مكانتها وقدسيتها في نفس الإنسان المسلم.
نتفق مع تشخيص الفنان الكبير فيصل لعيبي في نعيه لأستاذه الراحل غازي السعودي، حيث قال “تعلمنا منه الكثير من أسرار الفن وطرق تطويره، زرع فينا الجدية والتواصل مع الحرفة والتنويع عليها، درسني في معهد الإنشاء والتصوير وفي أكاديمية الجداريات، وكان نعم المعلم والأستاذ وآثاره باقية في منعطفات بغداد الحبيبة”.
