عندما اتهم عمر الشريف ويوسف شاهين بالخيانة الوطنية

ليس هناك طائل من القول إن الوطنية مسألة لا ترتبط بحب الحاكم والولاء له، فالمعارضة توجد في اللحظة التي ينشأ فيها أي نظام سياسي في أي دولة في العالم.
ومعارضة النظام السياسي تختلف تماما عن “كراهية الدولة”، فالدولة هي مؤسّسات متعدّدة يعمل فيها الجميع، بينما النظام يتكوّن من أدوات السلطة في الحكم. وليست هناك فائدة من تكرار القول إن الجنسية المصرية ترتبط بالولادة والنشأة على الأرض المصرية والانتماء إلى أبوين مصريين.. إلى آخر الشروط المعروفة والمستقرّة منذ صدور قانون الجنسية في مصر عام 1958.
ولا يحق لأي كان أن يطالب بسحب الجنسية أو يسحبها بالفعل ممّن اكتسبها تلقائيا بحكم ولادته وانتمائه، فمن يريد سحب الجنسية من مواطن مصري هو نفسه مواطن مثله اكتسبها بحكم ولادته وليس بموجب حق التفويض الإلهي، وهو لم يمنح أحدا جنسيته لكي يحقّ له أن يسحبها منه. وكل هذا معروف ومفروغ منه تماما، وكنا نحسب أيضا، أنه قد أصبح من الأعراف المستقرّة في أي دولة حديثة.
إلاّ أن هذه الدعوات الغريبة ليست جديدة تماما، بل كانت تظهر في فترات الغليان السياسي والاضطرابات الاجتماعية.
ففي العام 1967 كان الممثل النجم عمر الشريف في الخارج بعد خروجه من مصر منذ قيامه بدور رئيسي في فيلم “لورنس العرب” (1962) ثم انفصاله عن فاتن حمامة.
وكانت مصر بعد حرب 1967 تشهد الكثير من الاضطراب والغليان والتشكّك والمراجعة. وكان الغضب العارم يعتري الكثيرين، وكان هذا الغضب عند الإعلام الموجه من قبل السلطة، يتجه لا إلى المسؤولين الذين تسببّوا في وقوع الهزيمة العسكرية، بل إلى كل من يفعل شيئا لا ترضى عنه السلطة.
وكانت إحدى وسائل السلطة البحث عن أي قشرة يمكن تضخيمها وإثارة الضجيج بشأنها لإلهاء الناس وتخويفهم في نفس الوقت.
قام عمر الشريف في العام 1968 ببطولة فيلم “فتاة مرحة” أمام الممثلة الأميركية (اليهودية) باربرا ستريساند.
وعلى الفور منع عرض الفيلم في مصر وقامت قيامة الصحافة وكتب أحد كبار الصحافيين يطالب بإسقاط الجنسية عن عمر الشريف بعد أن اعتبره خائنا، خان الوطن وقبل التمثيل أمام ممثلة يهودية صهيونية.
ولكن عمر الشريف سيصبح بعد ذلك “النجم المصري العالمي الكبير” ويُستقبل استقبال الأبطال والغزاة الفاتحين، ويتم تكريمه في كل مكان داخل مصر، ويتولى الرئاسة الشرفية لمهرجان القاهرة السينمائي بعد أن تتغيّر السياسة ويتجه الرئيس السادات للصلح مع “إسرائيل”.
القاعدة الثابتة أنه إذا حقّق المبدع نجاحا فرديا في الخارج، ينسب هذا النجاح لمصر. أما إذا أخفق يتم تحميله وحده المسؤولية
يعود “الابن الضال” إلى وطنه ويقوم ببطولة فيلم أو فيلمين ومسلسل تلفزيوني ويظهر كثيرا على شاشة التلفزيون في برامج حوارية يروي فيها ذكرياته في الخارج، وبالتالي رضي عنه الإعلام الذي كان يهاجمه في الماضي القريب. إلاّ أن عمر الشريف لم ينافق ولم يردّد ما كان يُراد منه ترديده من كلام مبتذل، بل كان صريحا جريئا صادما في الكثير من الأحيان، لكنه كان قد أصبح أيقونة مصرية ولم يعد ممكنا اتهامه بالخيانة الوطنية، فمصر أصبحت تتطلع إلى الاستفادة من علاقاته الدولية في عهد “الرئيس المؤمن”.
ستعود فكرة سحب الجنسية مرة أخرى بعد أن يخرج يوسف شاهين فيلمه القصير “القاهرة منورة بأهلها”. فقد ثارت ضجة كبيرة في الصحافة المصرية عندما عرض شاهين الفيلم في مهرجان كان عام 1991 من دون أن يمر على الرقابة المصرية، فقد ذهبت نسخة الفيلم مباشرة من التلفزيون الفرنسي (وهو الطرف المشارك في الإنتاج) إلى المهرجان.
وطالب بعض الصحافيين والنقاد المصريين بمنع عرض الفيلم في مصر، كما طالب بعضهم بضرورة معاقبة مخرجه والتحقيق معه بتهمة الإساءة إلى صورة مصر، وبلغ الأمر حد المطالبة بسحب الجنسية من شاهين. ليت هناك فقط من يرجع إلى صحف الفترة ليرصد ردود الفعل المدوية وكل ما قيل في حق يوسف شاهين في تلك الفترة.
رأى الناقدون أن الفيلم يعتبر إساءة إلى مصر لمجرد أنه يقدّم صورة واقعية مباشرة للقاهرة التي تمتلئ بالمشاكل والتناقضات: البطالة المنتشرة بين الشباب ونزوح الفلاحين من الريف إلى القاهرة طلبا للعمل وازدحام الميادين الرئيسية بهم في انتظار من يلتقطهم للعمل في البناء، وكيف ارتفعت حدة الأزمة في أعقاب حرب الخليج مع عودة مئات الآلاف من العمال المصريين الذين كانوا يعملون في العراق والكويت. ويصوّر الفيلم أيضا سكان الأحياء الهامشية وانتشار جماعات الأصولية والعنف.
تم الشطب على اسم شاهين بعد هذا الفيلم، وخاصة أنه كان وقتها أيضا ممن انتقدوا بشدة الموقف الرسمي المصري من حرب الخليج (1991). ولكن بعد سنوات قليلة يعود شاهين ليصبح نجما مرموقا في الإعلام المصري بعد أن يحصل من مهرجان كان (أي من نفس المهرجان الذي وُصف بالصهيوني المعادي لمصر) على “السعفة الذهبية” تقديرا لمجمل أعماله في السينما.
استُقبل شاهين في المطار، ورفعوه فوق الأعناق وكان الرجل نفسه مندهشا من كل هذه الهستيريا المفاجئة، وبعد أن كانت أفلامه ممنوعة من العرض في التلفزيون المصري بتعليمات رسمية من أعلى المستويات، أصبحت تعرض بانتظام وتناقش ويتم إطراؤها أيضا.
والقاعدة الثابتة أنه إذا حقّق المبدع نجاحا فرديا في الخارج، ينسب هذا النجاح لمصر. أما إذا أخفق أو أحبط يتم تحميله وحده المسؤولية. ولعل هذا هو نفس ما يحدث اليوم للاعب كرة القدم الموهوب محمد صلاح.