علي بن فليس ابن شرعي للنظام الجزائري يبشّر بتغييره

بن فليس نزل في الساعات والأيام الأولى للحراك الجزائري، ولكنه قوبل بالرفض وطرد من الساحات ليقين الجزائريين أنه جزء من النظام، عمل فيه وتعامل معه.
الأحد 2019/12/01
رجل الهزائم المتكررة

ما بين عامي 2004 و2019 ما يزال علي بن فليس يحلم بمكانه تحت شمس الحكم. يصرح دوما أنه كان الفائز الحصري والاستثنائي في كل موعد رئاسي. خانته الأقدار ولعبت وراء ظهره رغم أنه كان ابنا للنظام يعرفه كما يعرف بيته، تربى بين جنباته وفي أروقته، لم تكن تغيب عن عينيه أي مناورات أو تكتيكات يقودها العسكر والساسة أو المتنفذون أو رجال المصالح وقوى الضغط.

 وعندما رأى، في يوم ما، أنه لم يعد يطّلع على ما وراء الأبواب والستائر، شق عصا الطاعة وخرج لا يلوي على شيء سوى على المواجهة، وتدارك الأخطاء، وتصحيح الدفة علّها تدور إليه وترحم شغفه بقيادة بلد متهاو أصبح الكل بين ليلة وضحاها، بعد أن طوق الحراك الأعناق، يقول إنه في خدمته بالنفس والنفيس والغالي.

تاريخان مر فيهما بن فليس منافسا عنيدا بعد أن أخـرجوه من دوائر النظام، فلا أحد كان بإمكانه الاستقالة أو الانسحاب بمحض إرادته وهو ما كان معروفا، كما يقول المتتبعون لشؤون الحكم في الجزائر. هُزم على حصون وقلاع الحروب والصراعات التي كانت تدار من أجل خلود الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وعصبته في جنات الملك، توقيتان عرفت فيهما الدولة التوترات والتجاذبات والصراعات والتخمينات والشكوك والقيل والقال.

الرئاسة المستعصية

بن فليس منتوج أصيل للنظام الجزائري، بقي تحت مظلته طيلة سنوات، ولحظة فكر في التمرد أو الخروج عليه أو غيرها من التسميات التي تصف تلك اللحظة، عزله وحاصره وسحب منه أدوات القوة والحضور والفعل
بن فليس منتوج أصيل للنظام الجزائري، بقي تحت مظلته طيلة سنوات، ولحظة فكر في التمرد أو الخروج عليه أو غيرها من التسميات التي تصف تلك اللحظة، عزله وحاصره وسحب منه أدوات القوة والحضور والفعل

 زمن الاصطفاف والضرب تحت الحزام، الولاءات والطاعات والعصيان وبدايات التمرد والتململ، وميلاد الحركات الرافضة الصامتة والصاخبة لترشح بوتفليقة. الحسابات الخاطئة للكثير من الشخصيات والأحزاب والإعلاميين. والخيانات أيضا مع البحث عن مخارج ومنافذ للانفلات من عقيدة الخوف والسيطرة التي بسطها النظام منذ سنة 1999 على كل شيء.

كانت الرئاسة قاب قوسين أو أدنى من يد بن فليس. ترشح ضد بوتفليقة للعهدة الثانية بعد أن تلقى الأمر أو النصيحة أو الإشارة من طرف الرجل القوي آنذاك في منظومة العسكر الجنرال محمد العماري، قائد أركان الجيش الشعبي الوطني، تلقى ضمانات واسعة وكافية ومهمة من طرف هذا الأخير والذي كان يمثل أضيق دائرة قرار في الدولة منها يؤخذ كل شيء وفيها تصب وتوزع وتراقب وتعطي وتمنح وتتصرف حسب الدواعي والدوافع والمصالح.

تلك الضمانات التي كانت مسطّرة ودقيقة جرّت معها الكثير من الأحزاب والشخصيات والإعلام الذي هلل لترشح بن فليس وسانده وقوى مركزه في المجتمع واقتنع الكل تقريبا بأنه لم يتبق لعهد بوتفليقة سوى أيام معدودات بل ساعات سريعات بل دقائق خاطفات، وينتهي إلى غير رجعة حاملا معه الخطايا والرزايا والمناكب وعصابته كما توصف الآن.

 ولكن كانت هناك يد أخرى مهيبة ومريبة تلعب في هذه الدائرة المغلقة وعلى الحبلين كما يقال. عين سهرت منذ توليها المنصب الأخطر في الدولة على شد الحبل والترقب والتوجس وعدم المغامرة. كانت عين الجنرال توفيق المسجون حاليا بتهمة التآمر ضد الدولة والجيش، تسهر في بيتين؛ بيت الدائرة الضيقة للعسكر، وبيت الرئاسة، وتنقل إلى هذه الأخيرة كل ما يتم التخطيط له ويطبخ.

 كان يعرف بحكم منصبه أن الرئيس بوتفليقة لا تغيب عنه مثل هذه الألاعيب مهما كانت سريتها ولو كانت في قعر قمقم لعلم بها، وبين ليلة وضحاها. بين ساعات وساعات قلبت الدولة العميقة الآلة الضخمة للانتخابات التي كانت ستعطي لبن فليس الفوز وصبت في النهر الواسع للرئيس بوتفليقة، وبعد ثلاثة أشهر من فوز هذا الأخير أقيل الجنرال العماري وبدأت آلة المتاعب تشتغل ضده وخرج للعلن بعض ما قيل إنه فساد مرتبط به وبأولاده. وما زالت صوره وهو يجلس في الصفوف الأمامية لمبايعة بوتفليقة للعهدة الثالثة مبثوثة في النت كتعبير مخز عن الولاء والاعتذار.

مفاتيح ضائعة

ذاق بن فليس طعم الهزائم تلو الهزائم، لم يستقر حتى كأمين عام لحزب جبهة التحرير الوطني حيث أبعد من على رأس الحزب بعد انتخابات العام 2004 وخسر المعركة وسلم مفاتيح الحزب بمحض إرادته، كما يقول، بعد أن رأى بوادر الهيمنة والخضوع والتسلط تتسرب في مسامات الحزب، وعرف حينها أن القوى لن تتركه يخطو مرة أخرى نحو الحلم والطموح.

لكنه عاود الكرة مرة أخرى وترشح سنة 2014 تلبية للنداءات التي كانت تأتيه من “ربوع الوطن”، فهو كما يقول كوّن قاعدة لا بأس بها أصبح يعرف تطلعاتها وآمالها، غير أنه هزم مرة أخرى. وككل مترشح لا يحظى بالفوز في هذه المواعيد ألقى باللائمة على الإدارة والجهاز السياسي القائم آنذاك، وأصدر على إثرها كتابا أبيض حول التزوير والآليات التي اعتمدت في خرق النتائج وتضخيمها لفائدة بوتفليقة. مرارة الهزائم قابلتها الإلحاحات المتكررة من مناصريه ومسانديه لكي يبني لهم بيتا يحميهم من اللف والدوران والتيه فلا يعرفون هل هم مع جبهة التحرير الوطني العتيقة بما أن بن فليس ابنها بالقوة والفعل أم هم أبناء ضالون لا يعرفون أين يضعون قلوبهم وعقولهم ونضالاتهم وهم يرون بن فليس يتجرع هزيمة وراء هزيمة، فأسس لهم حزب الطلائع الذي يقول عنه إنه لـ”بناء الحريات”. أنشأه من ضلع “الأفلان” مثلما ولد حزب التجمع الوطني “الأرندي” من الضلع الأعوج لـ“الأفلان” في متتاليات تاريخية مصيرية لا تنبسط أمورها إلا بمثل هذه التوليفات معظمها لا يخرج من الأوامر والتعليمات والحسابات.

ماضيه الذي يلاحقه

الحراك الجزائري لا ينسى أن حكومة بن فليس هي التي حظرت التظاهرات بقانون يمنع أي تجمهر، في مخالفة للحقوق التي ناضل بنفسه في سبيلها وتأسست من أجلها الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان التي كان عضوا فيها
الحراك الجزائري لا ينسى أن حكومة بن فليس هي التي حظرت التظاهرات بقانون يمنع أي تجمهر، في مخالفة للحقوق التي ناضل بنفسه في سبيلها وتأسست من أجلها الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان التي كان عضوا فيها

الحراك يتذكر أن حكومة بن فليس هي التي حظرت المسيرات والتظاهرات بقانون يمنع ويعاقب أي تجمهر، كان ذلك مخالفا لكل الحقوق التي أقرتها الأمم، وهي الحقوق التي ناضل بنفسه من أجلها وتأسست من أجلها الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان التي كان بن فليس عضوا فيها.

 جاء القانون بعد اشتداد المظاهرات التي أطلقتها “حركة العروش”، وهي حركة أسسها موطنون ينتمون إلى منطقة القبائل خرجوا للمطالبة بحقوق اجتماعية ثم تحولت إلى جماعة ضاغطة رافضة للتعديلات الدستورية التي أقرها بوتفليقة لتمديد عهدات الرئاسة، وقامت بالزحف نحو العاصمة الجزائرية في تحد صارخ للسلطة آنذاك، وانتهت بسقوط ضحايا، مما حتم على حكومة بن فليس وضع قانون منعت بموجبه التظاهر، وبقي ساري المفعول إلى غاية أن تكسر في 22 فبراير تحت أقدام ملايين الجزائريين الذين ما زالوا إلى اليوم يتظاهرون بسخط ودون تعب.

 نزل بن فليس في الساعات والأيام الأولى للحراك، ولكنه قوبل بالرفض وطرد من الساحات ليقين الجزائريين أنه جزء من النظام، عمل فيه وتعامل معه، وكان في قلب الحكم وزيرا للعدل، ومديرا لديوان بوتفليقة، ورئيسا للحكومة، وأمينا عاما لحزب “الأفلان” الجاثم على صدر الدولة منذ الاستقلال ومهيمنا عليها.

وفي عهده طار “الفتى الذهبي” مؤمن خليفة الذي قدمت له حكومة بن فليس عام 2001 كل التسهيلات، وفتحت له أبواب البنوك والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، بنى على أنقاضها إمبراطورية ضخمة خرافية هلل له الكل ووصفت بالقفزة الهائلة نحو العيش الرغد والكريم. طار في السماء محاطا بالذهب والإعلاميين الكبار والفنانين العالميين ورجال السياسة والنفوذ، ولم ينزل إلى الأرض إلا بفضيحة سميت “فضيحة القرن” ما زالت تفاصيلها مضروبا عليها بالحديد وملفها يراوح المكان بين أروقة العدالة، فضيحة هزت الاقتصاد الوطني وخلفت كوارث مالية واجتماعية لم تزل الدولة والمجتمع يتجرعان كأسها العميق المترع بالمرارة والصمت.

خلافات وأسرار

لم تتسرب تفاصيل كثيرة حول الأسباب والخلفيات الحقيقية التي نشبت بين بوتفليقة وبن فليس وجعلت هذا الأخير يغادر منطقة الحكم الآمنة، قيل إن السبب يعود لرفضه قانون المحروقات الذي كان سيرهن حقول الجزائر الغنية ويضعها في أيد أجنبية أميركية بالتحديد، وهو قانون أعده أقرب مقربي بوتفليقة وزير الطاقة آنذاك شكيب خليل المطلوب اليوم للعدالة، أعده بمعية خبراء من أميركا وصناع قراراتها الخارجية، وقد تكاتف ودعّم الرفض بقوة وزير الداخلية آنذاك يزيد زرهوني، وتم سحب القانون حسبما يشاع بناء على رغبة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز في إحدى الزيارات الرسمية التي قادته إلى الجزائر حيث انفرد رئيس الحكومة بن فليس به وطلب منه الضغط على بوتفليقة من أجل أن يلغي القانون وهو ما تم.

بالمقابل يقول آخرون إن الخلاف جاء بعد أن أحس بوتفليقة أن بن فليس طعنه في الظهر، وهو الذي فتح له أبواب القصر، وأحتضنه، وعلمه أصول السياسة وإدارة المواقف هنا وهناك، ومنحه فرص التقرب من صنع القرار وأطلعه على الكثير من الأسرار والخفايا المتعلقة بالنظام، فقاد حركة أو تمرّد في الخفاء بإيعاز من جناح قوي داخل المؤسسة العسكرية، فترشح مرتين ضده، ولكنه انهزم أمام قوى الأمر الواقع المدعومة بقوة المال والمكر والمؤامرات والدسائس، وتلك هي فنون الحرب التي يصلح فيها كل شيء من حيث التموقع واللحظة السانحة والحسابات الصحيحة والتي لم يحسن بن فليس النظر إليها وتقييمها والعمل والتحرك على ضوئها.

متاهة المصير

بن فليس يحاول ومنذ الساعات والأيام الأولى للحراك الانخراط فيه، ولكنه قوبل بالرفض وطرد من الساحات، ليقين الجزائريين أنه جزء من النظام
بن فليس يحاول ومنذ الساعات والأيام الأولى للحراك الانخراط فيه، ولكنه قوبل بالرفض وطرد من الساحات، ليقين الجزائريين أنه جزء من النظام

ربما كان قدر بن فليس ابن الــ75 سنة المولود بمنطقة الأوراس حاضنة الثورة الجزائرية، ابنا لثوار حاربوا وسقطوا شهداء إما تحت التعذيب أو عن طريق الإعدام، ولم يعرف إلى الآن مصير والده المخطوف من طرف المستعمر الفرنسي، ربما كان قدره مرتبطا بهذه المنطقة التي احتضنت عائلته وغرست فيه جذور الشهامة والصدق والوفاء والتربية والسلوك الأخلاقي الذي يراعي الاحترام والتقدير. ولكنه في لحظة زمنية فاصلة، بين هذا وذاك، عرف أن مصيره سيقوده إلى معترك نضالي مسموحا فيه كل شيء.

حاول أن ينقل القيم التي تربّى عليها إلى جسد السياسة الموشوم باللحظة مهما كانت نتائجها سواء أكانت مفسدة أو مصلحة، ووضع نفسه في خضم هذه المتاهة اللولبية التي لم يخرج منها إلا منكسرا ومحطما ومريرا، وكلما عاد إلى الواجهة عاد وفي قلبه وذاكرته الكثير من الأحداث التي يتمنى أن تمحى من مساره المليء بالإحباطات والكثير من الآمال، فليس سهلا أن تنفصل من نظام أو قانون أو حياة أو واقع أو رجال كنت قريبا منهم أو بعيدا منهم، صنعوك وعركوك وعجنوك بمحض إرادتك وبكامل وعـيك وهو ما هو عليه بن فليس مهما كانت التزويقات والمعارضات والاختلافات. فبن فليس منتوج أصيل للنظام، بقي تحت مظلته وقبعته طيلة سنوات، ولحظة فكر في التمرد أو الخروج عليه أو غيرها من التسميات التي تصف تلك اللحظة، عزله وحاصره وسحب منه أدوات القوة والحضور والفعل، ومع ذلك استمر في المقاومة مستعيدا هذه المرة روح الأرض التي ربته على الصبر والأناة والاعتزاز بالمصير أيا كانت وجهته.

مثلما قلنا عن حمروش الرئيس الحالم عن أنه نموذج تراجيدي لرجل كان جزءا من منظومة الحكم في الجزائر التي ساهمت في إفلاس الدولة وتعريتها، والدليل ما وصلت إليه اليوم في خضم الحراك الرافض لها، كذلك ينظر إلى بن فليس كحلقة أخرى في سلسلة هؤلاء الرجال، فحتى لو جاء واحدهم يسعى بأطباق من ذهب، فلن يصدقه الحراك، كما يقول أحد النشطاء.

يحسب لبن فليس أنه حافظ لبحور الشعر العربي العشرة، يعرف دقائقها وأسرارها وتفاصيلها ومملاتها، يتهكم من بحر الرجز حمار الشعراء كما يقال، ويمر عليه سريعا، وكأنه لا يريد أن يكون ضمن قوافل البحور. في رأسه بحر هائج ومتلاطم وعاتية أمواجه وعميق غوره، بحر الجزائر. فترى على أية سفينة سيمخر بن فليس عباب هذا البحر ويقود الجزائر إلى بر الأمان وشط السلام؟  

8