عصف طائفي يسبق عرض بابا العرب

مسلسل "بابا العرب" يختبر تفاعل العامة مع نهج التسامح ونبذ الطائفية.
الاثنين 2019/11/04
الكنيسة تتجاوز تشددها السابق

حالة من الجدل أثارها الإعلان عن مسلسل “بابا العرب” الذي يتناول قصة حياة البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل، حيث يعدّ العمل الدرامي الأول، والذي يجسد بصورة كاملة حياة شخصية مسيحية. ويمثل المسلسل الذي سيعرض على قنوات عامة، غير مسيحية، اختبارا حقيقيا لمدى درجة التسامح ونبذ الطائفية اللذين تعمل الدولة عليهما.

القاهرة - أثار موقف الكنيسة المصرية عقب الإعلان عن إنتاج مسلسل يروي سيرة حياة البابا الراحل شنودة الثالث البطريرك الـ117 في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية حالة من الجدل في مصر؛ بدءا من اسمه، ومرورا بتوقيت الإعلان عنه، ثمّ وصولا إلى تمويله ومدى حياد المادة التي سيتناولها العمل الفني.

يعكس المسلسل في ظاهره درجة كبيرة من التسامح، لأن الأعمال التاريخية والسير الذاتية العامة ظلت حكرا على الشخصيات الإسلامية، بينما تُحبس الأعمال التي تتناول سير البابوات والقديسين بين جدران الكنيسة، فعمقت تلك العزلة تبني معتقدات خاطئة عن الآخر وتوارثها.

للمرة الأولى سوف يتمّ عرض عمل درامي يتحدث عن شخصية مسيحية على قنوات (غير مسيحية)، وتوجه إلى جمهور عام من خلال شاشات العرض بشرائح عمرية مختلفة ما يخلق حالة من الالتفاف المجتمعي والمتابعة، ويعد دفعة في صالح المواطنة ونبذا للتشدد والطائفية.

كانت الكنيسة تكتفي بعرض أعمالها داخل جدران الأديرة فقط، ويتم توزيعها على أسطوانات مدمجة من جانب شركات الإنتاج المسيحية القائمة على التمويل الذاتي، بسبب رفض الأزهر الشريف تجسيد الأنبياء أو تناول معجزات القديسين في أعمال عامة على الشاشة، إلى جانب خوف الكنيسة من أعمال عنف قد تطال التجمعات القبطية في دور العرض والمسارح من جانب المتشددين، إذا تمّ عرض عمل فني مسيحي خالص.

يشيد الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، صلاح الدين حسن، بعزم الكنيسة على إنتاج المسلسل، وعدّه خطوة متأخرة، قائلا “طالما أن إنتاج أعمال عن الشخصيات التاريخية المسلمة، مثل الشيخ محمد متولي الشعراوي، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل وغيرهم، راسخة في الدراما، ويتم حجب شخصيات تاريخية مهمة سواء البابا شنودة أو رئيس وزراء مصر الأسبق مكرم عبيد، فكان يجب على الكنيسة أن تتدخل لسدّ هذا الفراغ”.

يوضح حسن لـ”العرب”، أن الحذر من الشحذ الطائفي أو انتقاد عمل الفني يجب ألا يعيق إنتاج تلك الأعمال، وتابع “السلفيون أو أصحاب المواقف الدينية الراديكالية مواقفهم جامدة، ولا يمكن أن تتغير بعمل فني، بل على العكس حتى إذا كان ردّهم يتعدّى الصمت إلى الانتقاد والهجوم، فهم ليسوا الفئة المستهدفة”.

مسلسل "بابا العرب" خرج بدعم الحكومة لتأييد خطواتها في تعميق السلم المجتمعي ومواجهة الطائفية والحفاظ على الكتلة الداعمة من المسيحيين وتوجيه رسائل إيجابية إلى المجتمع الدولي

ويضيف “المستهدفون البسطاء غير المؤدلجين، سيجذبهم المسلسل ويؤثر فيهم، خصوصا بثراء حياة البابا شنودة وخطوطها الدرامية، وحسه الفكاهي، فقد كان شخصية ضحوكة بشوشة في عظاته داخل الكنيسة أو خارجها، ومواقفه الوطنية”.

بعيدا عمّا يحمله العمل من تطور إيجابي وخروج الأعمال الفنية المسيحية من عباءة الانغلاق والتقوقع داخل جدران الكنائس والأديرة، هناك حالة من الارتباك سادت الأوساط القبطية بتناول سيرة حياة البابا شنودة بدقة وموضوعية.

البداية كانت من اسم المسلسل الذي اختاره معد المادة التاريخية نشأت زقلمة، والذي أوضح أن اسم “بابا العرب” سببه أن شنودة كان راعيا لكل المسيحيين العرب، والاسم أطلقته الصحافة السورية على الراحل في حياته أثناء زيارته عام 1997 لمخيم اليرموك.

لم يلق تصريح زقلمة ترحيبا من الكثيرين، والمثير أن أغلبهم لا ينتمون إلى جماعات دينية بعينها، من تلك التي يُتوقع أن تقف بالمرصاد للمسلسل، وخصوصا ذوي الأفكار المتشددة الذين قادوا صدامات مع الصوفية أيضا، وشحنوا عقول أتباعهم بجرعات مكثفة من رفض الآخر.

بابا من؟

استنكر نشطاء التناقض الذي يطرحه الاسم، وكيف يصرّ الأقباط على هويتهم الفرعونية ويعترضون على وجود قسم للتراث “العربي” المسيحي، معتبرين ذلك “تذويبا للهوية القبطية لصالح المكون العربي”، وفي ذات الوقت يطلقون اسم “بابا العرب” على شخصية كاريزمية بحجم البابا شنودة؟

أصدرت حركة شباب كريستيان (المسيحية) للأقباط الأرثوذكس بيانا رسميا رفضت فيه تسمية المسلسل “بابا العرب”، وأنه عمل كنسي ومن المفترض أنه غير مسيّس والبابا شنودة ليس لاعب ليفربول الإنكليزي محمد صلاح الذي سمي بـ”فخر العرب”، فضلا عن أنه معلم الأجيال للعالم وليس للعرب، والتخصيص والتحديد مسألة مرفوضة. ولذلك ناشدت حركة أساقفة المجمع المقدس إعادة النظر في اسم المسلسل.

يعترض الباحث إسحاق إبراهيم على إطلاق اسم “بابا العرب” على المسلسل، فليس للتسمية سند من الواقع وتكشف عن نوايا العمل المزمع إنتاجه، وجاءت في سلسلة التضخيم التي باتت تسبق أسماء القيادات الدينية منذ سنوات، لأن البابا شنودة الراحل كان بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبطريرك الكرازة المرقسية فقط.

تطابق موقف الباحث من اسم المسلسل مع آراء لنشطاء أبدوا اعتراضهم عليه، فكتب أحدهم مقالا بعنوان “بابا المصريين وليس بابا العرب”، وعلق آخر عبر موقع فيسبوك “مع احترامي للجميع.. #بابا_العرب_كيف؟ هو بابا الأقباط الأرثوذكس فقط ولا يجرؤ أحد أن يدعي أنه بابا لأي كنيسة أخرى في مصر أو العالم.. وقطعا هو ليس بابا للعرب المسلمين”.

توقيت المسلسل

البابا الراحل شنودة الثالث البطريرك الـ117 في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية
البابا الراحل شنودة الثالث البطريرك الـ117 في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية

يرى متابعون للشأن القبطي، أنه لا يجب فصل توقيت المسلسل عن الأجواء المتأزمة التي تعيشها الكنيسة المصرية؛ فمنذ رحيل البابا شنودة هناك عدة جهات إنتاجية تعتزم تحويل سيرته الذاتية إلى عمل فني، وكان هناك أكثر من مشروع، منها ما أعلن عنه السيناريست مدحت العدل، حيث قال إنه ينوي كتابة حياة البابا الراحل في فيلم سينمائي، لكن المشروع توقف.

وسبق أن أوقفت لجنة التصنيفات الكنسية بعض الأعمال عن البابا، بحجج عدّها البعض تعجيزية مثل “نقص الجانب الروحي”، وكانت مقدمة كعرض خاص داخل الكنيسة إلى أن أعلن دير الأنبا بيشوي أنه بصدد التحضير لعمل تلفزيوني ضخم عبارة عن 34 حلقة بعنوان “بابا العرب”، يتناول حياة البابا شنودة، ومرشح لبطولته الفنان ماجد الكدواني.

ربط باحثون في الشأن القبطي بين توقيت الإعلان عن المسلسل والخلافات المستمرة التي طفت على الساحة بين “الشنوديين” (نسبة للبابا شنودة) والتيار الإصلاحي الذي يمثله البابا تواضروس الثاني، بابا الكنيسة المصرية حاليا.

تلك الخلافات خرجت للعلن ربما للمرة الأولى في تاريخ الكنيسة، عندما طرح المعارضون لسياسات البابا الإصلاحية استمارات لعزله، وأقام رجال دين مسيحيون من المحسوبين على التيار الشنودي مؤتمرا انتقدوا فيه سياسات البابا والانفتاح على الكنائس الأخرى.

يبدو أن هؤلاء لهم يد في إخراج المسلسل إلى النور بعدما بقيت الفكرة حبيسة لسنوات لشعورهم بأن الهجوم اشتد في المرحلة الحالية على من يتبعون الفكر الشنودي بعد رحيل الأنبا بيشوي خليفة البابا شنودة والمتصدّي لأي فكر يخالفه. لا ينكر متابعون، أن المسلسل يرسخ مبدأ التسامح بين المصريين، وسيعرّف المسلمين على جوانب مضيئة وغامضة بالنسبة لهم عن شركاء الوطن، ويعدّ فرصة لترسيخ معاني الوطنية داخل نفوس الأجيال الجديدة.

في المقابل، سينشر الفكر الشنودي المتشدد والرافض للانفتاح على الكنائس الغربية وتوحيد المعمودية، ويجذب المزيد من الشباب المسيحي لاعتناق الفكر الذي يرتدي ثوب التسامح.

تساءل مراقبون، هل مَن منعوا مذكرات الأنبا غريغوريوس من معرض الكتاب القبطي بسبب تعرضه لخلافاته مع البابا شنودة وإظهاره لجانب خفي من شخصيته وما زالوا يكفرون من يخالف شنودة في الرأي ويتهمونه بالهرطقة كالأب متّى المسكين، سيكونون حياديين؟

هناك تحديات تتعلق بمواقف البابا وخلافاته، منها الصدام الأبرز مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وموقفه من سفر الحجاج المسيحيين إلى القدس، ونفي السادات لشنودة إلى دير وادي النطرون بصحراء مصر الغربية، وكذلك موقفه من الرئيس الأسبق حسني مبارك، وثورة 25 يناير 2011 التي أزاحته وكان شنودة غير مرحب بها، كيف سيحسم المسلسل ذلك الأمر، هل سينتصر للبابا أم سيحاول تجنب الأمر؟

قال الباحث إسحاق إبراهيم، إنه لا الإمكانيات ولا الأجواء السياسية والدينية والاجتماعية مناسبة لإنتاج فيلم أو مسلسل عن البابا الراحل شنودة الثالث.

وأضاف، من حيث المبدأ ليس من مسؤوليات الكنائس أو الأديرة إنتاج الأعمال الدرامية والسينمائية حتى لو كان الموضوع دينيا أو عن شخصية دينية، بالتالي فإن وضع ميزانية إنتاج تصل إلى 80 مليون جنيه (نحو 13 مليون دولار) لمسلسل تحت اسم “بابا العرب” من إنتاج دير الأنبا بيشوي، أمر مستفز ويستوجب مساءلة القائمين عليه.

وأشار إلى أن تناول حياة البابا شنودة في مسلسل أو فيلم بعد وفاته بنحو 8 سنوات، وهي فترة قصيرة، لن يكون منصفا وموضوعيا في سرده، وسيتم إبراز جوانب على حساب أخرى، ويتأثر صناع العمل بالمناخ السياسي وربما يعكس رؤية السلطتين السياسية والدينية للبابا الراحل وتعامله مع الأزمات الكثيرة التي تعرضت لها الكنيسة ومضايقاته.

وتابع إسحق “هناك خلاف حول الكثير من أفكار البابا شنودة، وقد بدأت القيادات الكنسية الحالية اتخاذ موقف مغاير منها، وبالتالي تناولها حتما سيحدث ما يثير الكثير من الجدل”.

تسامح أم طائفية

يحمل مسلسل “بابا العرب” اختبارا من نوع خاص، إذ يختبر تفاعل العامة مع نهج التسامح ونبذ الطائفية اللذين تعمل عليهما الدولة المصرية مُنذ سنوات باتخاذ مجموعة من السياسات، وفي مقدمتها تقنين 1171 كنيسة غير رسمية خلال أقل من عامين والاستمرار في ترتيب المزيد من الأوضاع، فضلا عن افتتاح “كنيسة الميلاد” أكبر كنيسة في الشرق الأوسط بالتزامن مع مسجد الفتاح العليم في العاصمة الإدارية الجديدة بالقاهرة مطلع العام الجاري.

ويشير باحثون إلى أن مسلسل “بابا العرب” خرج بدعم الحكومة لتأييد خطواتها في تعميق السلم المجتمعي ومواجهة الطائفية والحفاظ على الكتلة الداعمة من المسيحيين وتوجيه رسائل إيجابية إلى المجتمع الدولي، لأن هناك تشكيكا مستمرا في قدرة الحكومة على السيطرة على أعمال عنف إزاء عرض أعمال فنية مسيحية بالمسارح ودور العرض.

وتوجد تخوفات من أنه في حال أخذ المسلسل طابعا عقائديا، سوف يتيح استغلال أحداثه وتكويناته، من قبل متشددين في إثارة أزمات طائفية، خصوصا في مناطق ملتهبة بطبيعتها، وإن كانت تشهد كمونا، لكن سرعان ما تشتعل فجأة لأسباب غير منطقية.

هذا العمل يختبر تفاعل العامة مع نهج التسامح ونبذ الطائفية
هذا العمل يختبر تفاعل العامة مع نهج التسامح ونبذ الطائفية 

وأكد مؤلف العمل، أن المسلسل لا يضم موقفا سياسيا أو بعدا طائفيا، بل يواجه الطائفية بشخصية منفتحة ثرية معطاء ووطنية مثل البابا شنودة فالعمل درامي اجتماعي، وليس كنسيا، فهو يقدم عرضا تاريخيا ويصلح لتشاهده الأسرة.

وأبدى نشأت زقلمة، تفاؤلا تجاه عمله وردود الفعل عليه، متوقعا أن يحصد جماهيرية جارفة، لافتا إلى أنه استغرق 25 شهرا في كتابته ليغطي حياة البابا في أربع مراحل من الطفولة وحتى الوفاة، وحصل على إجازة من قبل اللجنة الفرعية للمصنفات الكنسية، والهيئة العامة للرقابة على الأعمال الفنية، كما حصل على شهادة إيداع المجلس الأعلى للثقافة وترخيص من نقابة المهن السينمائية، ورُصدت له ميزانية كبيرة.

يدعم العمل فكرة المواطنة عبر اختيار الممثلين، إذ يقتصر اختيار الكنيسة للممثل الذي يؤدي شخصية البابا، ويُترك اختيار باقي فريق العمل للمخرج، ويضع ثراء العمل في ما يتعلق بشخصيات على قيد الحياة، تحديات إضافية أمام تجسيدها.

ورشحت الكنيسة الفنان المصري ماجد الكدواني لتجسيد شخصية البابا، لكنه إلى الآن لم يعلن عن قراره بالموافقة أم بالرفض، فالإعلان عن المسلسل انطلق عبر بوستر دعائي نشرته صفحة منسوبة للكدواني عبر فيسبوك وتردد اسم المخرجة ساندرا نشأت لقيادة العمل.

ويطرح اختيار الكدواني وساندرا وزقلمة، وهم مسيحيو الديانة، تساؤلات حول التصنيف الطائفي، فرأى البعض أن اختيار ممثل أو مخرج أو مؤلف مسلم للمشاركة في العمل يمكن أن يعمق معاني رسائل المسلسل.

وشدد الباحث في الشأن القبطي، جرجس فكري، على أن المجتمع المسيحي لم يكن ليقبل ممثلا مسلما في تجسيد شخصية البابا، إذ يعتبرونه تجسيدا يفتقد إلى المعاني الإيمانية والروحانية العميقة عندهم.

وأضاف “صحيح أن اختيار مسلم أفضل ويخرج العمل من عباءته الكنسية، لكن المجتمع غير جاهز لتلك الخطوة، وقد يصبح أكثر تقبلا لها مستقبلا، مع تكرار تلك الأعمال”.

ويبقى الحكم على خصوصية المُسلسل وتفنيدها وفحص آثارها قيد إتمام العمل وعرضه وقياس تأثيراته، لكن بالمقارنة بين التحديات والتخوفات والمكاسب التي تحققها الخطوة الكنسية، تُرجَّح هذه الأخيرة.

ويعدّ “بابا ألعرب” طفرة لقيم التعايش والتسامح ونبذ الطائفية  وهو قفزة إيجابية ولافتة، وفق تقييمها العام، وأمر ضروري لاختبار رواسب التشدد في المجتمع للمواجهة الفكرية والثقافية مستقبلا.

13