عزالعرب الكغاط.. رحلة خمسين عاما في المسرح والتلفزيون والسينما

سبعة عقود ولا يزال الممثل فتى باحثا عمّا يجهله في دروب الفن.
الأربعاء 2020/09/30
التنميط يقتل إبداع الممثل

أغلب الممثلين بدأوا مشوارهم من المسرح. والكثير منهم اتجه لاحقا إلى السينما أو التلفزيون، لكن شروط العمل مختلفة بين الركح والشاشتين الكبيرة والصغيرة، وخاصة في الدراما التي قد تحدّ من قدرات المثل وتحصره في دور واحد تعوّد عليه جمهوره، وهو ما يدفع الكثيرين إلى التراجع مثل ما فعل الممثل المغربي عزالعرب الكغاط.

فاس (المغرب) – حقيبة السفر مجهزة على الدوام. يلاحق مواعيد التصوير هنا أو هناك، يلبي نداء المهرجانات داخل المغرب وخارجه، يوقع الحضور في أستوديوهات التصوير الدولية بورزازات، لكن حنينه أبدا لأول منزل، فاس، مسقط الرأس ومرتع العمر.

صباحات الممثل المغربي عزالعرب الكغاط مبرمجة من منزله في وسط المدينة إلى مقهى لاكوميدي، الفضاء ذي النكهة الفنية الذي أسسه قبل سنوات طويلة. بطوله الفارع ورأسه اللامع، يرد بصوته الجهوري تحايا معجبين يسمونه على الأغلب أسماء شخصيات تقمصها أو أعمال درامية شارك فيها.

المسرح هو الأب

على طاولة المقهى الأثير، يمج عزالعرب الكغاط سيجارته الأولى، يرتشف قهوة تعصف بالرأس ويستعيد في خطوط الدخان سيرة متشعبة الأفنان. يبدو بعيدا قريبا ذلك الطفل الذي ترعرع في محراب المسرح تحت جناح أخيه الراحل، محمد الكغاط، أحد أقطاب الحركة المسرحية والتلفزيونية بالمغرب، تأليفا وإخراجا وتمثيلا وبحثا جامعيا.

محظوظ هو إذ كان على موعد متجدد مع الفرجة والشقيق الراعي يصحبه إلى العروض، بل ويمنحه فرصة أولى للوقوف على الخشبة. كان دور طفل تدرب عليه وحين حل أوان العرض هاب الموقف وفر لائذا بمقعد بين الجمهور. في قاعة مسرح أمبير، الفضاء المسرحي والسينمائي التاريخي بفاس، تحول الشعور بالخلاص من حرج مواجهة الحشد إلى ندم خانق وهو يشهد على احتفاء القاعة بالطفل الذي عوضه في آخر لحظة، كيف تحول إلى نجم يحمل على الأعناق. لذا لن يفر من قدره مرة أخرى.

رغم مسيرة طويلة في السينما والدراما لا تزال شخصيات الكغاط المسرحية تسكن كيانه، يحكيها بتقمص حركي وصوتي

تحل البداية الحقيقية للمسار الطويل مع مسرحية “وليلي” بأدوار شخصيات رومانية تقاسمها مع شقيقه. مضت 54 عاما على هذه المحطة التي لقيت نجاحا كبيرا، وقدمت عزالعرب باسمه وموهبته لا بنسبته إلى الأخ، ذي الفضل الكبير الذي قدمه في أول الأعمال التي أخرجها عام 1969 “اللي كذب على الملائكة” اقتباسا للحسين المريني عن الكاتب المصري علي سالم.

سحر الركح أخاذ ولا يقبل شريكا إلا على مضض. المشاعر حية والعلاقة بالفضاء والجمهور مادية. يكاد الممثل يكتسي سلطة علوية وهو يوحد نبض القاعة ويشد أوتار المشدوهين بعوالم الحركة وتعبيرية الجسد ووقع الصوت.

ثم تطل الثمانينات والسينما المغربية وتتراكم التجارب المؤسسة، بينما تعيش ثقافة الفن السابع ذروتها في الأندية المنتشرة عبر الربوع. يلبي الكغاط نداء أحمد ياشفين الذي يقوده إلى أول أدواره في السينما مع فيلم “الكابوس” (1982).

“السينما ليست هي المسرح”، يقول الكغاط من وحي تجربة التنقل بين العالمين. الأدوات مختلفة ولو ظلت الموهبة هي الأساس.

سحر الركح أخاذ دائما، حيث المشاعر حية والعلاقة بالفضاء والجمهور مادية، ويكاد الممثل يكتسي سلطة علوية

ويضيف “التعامل مع الكاميرا يختلف عن الركح، فالتركيز في السينما على تعبير الوجه. إنه مشكل يواجه الكثيرين من الزملاء المسرحيين. والتأقلم يأتي مع التجربة. لقد تطلب مني الأمر مجهودا من أجل الاقتصاد في الحركة التي اعتدنا عليها وقوفا على الخشبة”.

تتعاقب السنوات، وتتعدد التجارب، لكن عزالعرب الكغاط لم يدرك بعد مرتبة النجم الجماهيري الذي تفرض شروط الصناعة الفنية في البلاد مراودته من نوافذ الدراما المطلة على البيوت. هو نفسه لم يكن متحمسا لدخول التلفزيون، الجهاز السحري الذي يصنع الرأسمال الرمزي للممثل في الذاكرة الجمعية.

مع بداية الألفية، سيذعن لإلحاح المخرج محمد اقصايب ويطل من مسلسل “الأخطبوط” الذي حقق نجاحا واسعا وتوج في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. وضع العمل الكغاط في القائمة الذهبية للوجوه المطلوبة تلفزيونيا وسينمائيا، فتوالت التجارب أمام ضوء الكاميرا في وقت كانت الهوة بين المتفرج وقاعة المسرح تتسع.

الخروج من النمطية

أمجاد الركح تصبح صورا مستعادة لحنين مفعم بالمرارة، والكغاط ليس مستعدا ليخوض حربا دونكيشوتية لاسترجاع الماضي مع أن الذكريات تعيش طرية متجددة في أحاديثه المشوقة التي يستفزها لقاؤه مع أصحاب المرحلة ورفاق السير.

شخصياته المسرحية تسكن كيانه، يحكيها بتقمص حركي وصوتي لمقاطع فصيحة اللغة. “جل مسرحياتنا في الستينات والسبعينات كانت بالفصحى، مقتبسة أو مؤلفة. تشبعنا بالإلقاء الفصيح، مكنتنا التجارب المتعاقبة من إتقان مخارج الكلمات والتحكم في رنين الصوت تحقيقا للوقع المنشود”.

إنه امتياز يسر للعديد من زملائه المشاركة في التجارب الدرامية والسينمائية العربية، من فيلم “الرسالة” لمصطفى العقاد وصولا إلى موجة المسلسلات التاريخية السورية التي صور بعضها في المغرب. واليوم لا مجال لإنكار غربة  اللسان العربي في المشهد المسرحي.

شخصياته المسرحية تسكن كيانه
شخصياته المسرحية تسكن كيانه

كان الكغاط مرشحا للعب أدوار مهمة في بعض الإنتاجات العربية التاريخية، هو الذي  شبهه كثيرون بأنتوني كوين، الذي يحفظ له المشاهدون في العالم العربي دوره في فيلم “عمر المختار”. أوشك على الانضمام  إلى أسرة مسلسل “القعقاع” لكن الخلافات كانت تتجدد حول التعويضات المالية.

الدراما التاريخية ليست استحالة مغربية أو منتجا حصري الاستيراد. يبدي الكغاط اعتزازا بتجربته مشخصا دور “المنظري” في مسلسل “الحرة” لإبراهيم شكيري.

الكثير من المغاربة تعرفوا من خلال العمل على شخصية نسائية بارزة صنعت الأحداث في لحظات مهمة من تاريخ البلاد في القرن الخامس عشر هي السيدة الحرة، زوجة أمير تطوان، المنظري، حاكمة شفشاون وقائدة الجهاد البحري في الساحل الشمالي.

من خلال تأديته لشخصيات مثل الجنرال، الكوميسير، لم تحل المسيرة الطويلة للكغاط دون الرقص على حبل الخطر. التنميط مصير مظلم للممثل، وقد فطن إلى الفخ الذي يحيق به، بوازع استسهال إخراجي يحنطه في صورة شخصية حائزة للسلطة.

ضاق الكغاط بالصندوق وسعى إلى التحليق خارجا مع تجارب وأسماء مغايرة. تنفس هواء جديدا في “سنة عند الفرنسيين” (2018) لعبدالفتاح الروم و”ميكا” لإسماعيل فروخي. تلك الخامة الصوتية، وتلك القسمات الحادة التي ترسم وجها سلطويا هي نفسها تلين وترق لتقدم روح كائن مفرط في إنسانيته. وتلك المعادلة الصعبة التي يعشق كل فنان حقيقي رفع تحديها.

بسبعة عقود ونيف على كاهل مسيرته الممتلئة عيشا وفنا، يمضي عزالعرب بروح فتى باحث عما لا يعرف في قارات الفن التمثيلي، يود لو يغير الجلد كل موسم وحين، تحقيقا لذات عطشى تستكشف في الشخوص المرقونة على الورق أغوار الكينونة القصية واحتمالات الحياة اللا نهائية وضروب الأقدار التي لا تتشابه.

16