عرب وأجانب يعيدون هيكلة الواقع ماضيا وحاضرا في معارض لبنانية

معارض يغلب فيها الاستعراض الجنسي على الحس الإنساني، وبطولات حيوانية لا تخلو من تكسرات نفسية.
السبت 2018/12/29
فوتوغرافيا العراقي إحسان الجيزاني: احتفال شعري بصري

عرف لبنان في العام 2018 سنة فنية حافلة بالترجمة البصرية لتعميق النظر في الوضع المزري الذي وصل إليه العالم العربي، ولكنها مثلت في الآن ذاته تكريسا لأهمية إرسال النظر إلى الكامن حكما خلف كل مأساة، لا سيما إذا كُشفت جذورها وقنوات امتدادها، سنة فنية اتسعت فيها أيضا إمكانية ردم هوة الاختلافات التافهة التي تفرق شعبا عربيا عن آخر لناحية المعاناة وأصولها ونتائجها.

بيروت - عاش لبنان، وبيروت بشكل خاص، في العام 2018 حياة فنية صاخبة تمثلت في المعارض التي تخطت التشكيل لتضم النحت في الساحات العامة والورش الفنية والتجهيز والتصوير الفوتوغرافي والسينمائي والاستعراضي، وعلى الرغم من صعوبة اختصار الحركة الفنية اللبنانية للعام الذي شارف على الانتهاء في مقال واحد نتيجة الكم الهائل من النشاطات التي شهدها بلد لا يزال يعاني الأمرين على جميع الأصعدة، يُمكن القول إن في هذه السنة، برزت ثلاث ظواهر، وهي أولا كثرة المعارض التي أقامها فنانون لبنانيون بوسائط فنية مختلفة بعد أن قل ظهورهم على الساحة الفنية، أما الظاهرة الثانية فتتعلق بجرأة تقديم موضوع الجنس في معارض متنوعة.

تبقى الظاهرة الثالثة، وهي الأهم وقد تمثلت بحاسة الاستدراك والتأمل التي تحركت على خطين، الخط الأول: محاولة تقييم مترو لنتائج وإفرازات الحروب والأزمات التي عرفتها المنطقة العربية، أما الخط الثاني فيتلخص في محاولة إنعاش الفرح في الحاضر أو استحضاره من الماضي.

شهدت هذه السنة عددا لا بأس به من المعارض التي تناولت الجنس، بل لنقل الممارسة الجنسية كاستعراض ونكأ للتابوهات ولفت الانتباه أكثر من تناولها كفعل إنساني أساسي له أبعاده النفسية، الجسدية وحتى الميتافيزيقية، إذ يصل البعض النشوة الجنسية، بالعودة إلى “الآخر” من ناحية ويضعه على تماس مع المُطلق من ناحية ثانية.

ومن تلك المعارض نذكر ما أقامته الفنانة التشكيلية اللبنانية/ الأرمنية أني كوركديجيان التي قدمت إلى الآن أهم الأعمال الفنية، وما حضر في معرض الفنانة كان مناف للإيروتيكية ونحى إلى البورنوغرافية دون أن يكونها، وكان أيضا مساءلة وجودية/ حسية تاهت عن مفاتيحها.

سيروان باران قدم لوحات شاهدة على أن "البطولة" هي أيضا متحوّلة من حيث ما تعني وإلى من تُنسب
سيروان باران قدم لوحات شاهدة على أن "البطولة" هي أيضا متحوّلة من حيث ما تعني وإلى من تُنسب

ومن المعارض الأخرى نذكر المعرض المُشترك الذي أقامته صالة “آرت سبيس” لمجموعة فنانين عرب وأجانب تناولوا بشكل عام الإيروتيكية من بابها الضيق.

ونذكر أيضا الفنان اللبناني محمد عبدالله الذي قدم في “آرت لاب” معرضا عن بهلونيات الكماسوترا، إلاّ أن ما ميز الأعمال يقع في مكان آخر، في جمالية واختزالية الخطوط التي شكل فيها الفنان الجسم الإنساني وحركته.

حفل العام 2018 بلوحات تشهد أن لكل عصر ملامحه البطولية، أهمها اللوحات التي قدمها الفنان التشكيلي العراقي سيروان باران في صالة “أجيال” تحت عنوان “أنياب”، لوحات شاهدة على أن “البطولة” هي أيضا متحوّلة من حيث ما تعني وإلى من تُنسب.

الأعمال التي عرضها الفنان تتحدث عن براعته في التعاطي مع كتلة الطاقة التي تُحرك عاطفته ومخيلته ومعالم لوحاته، استثنائية أدّت إلى إدخال المُشاهد في عملية استيعاب تدريجي لمكامن العنف الذي نعيشه في هذا الزمن، فالبطولة ليست مُجسّدة بخيل أصيلة تنتفض لذاتها، بل في مجموعة كلاب استحالت إلى كتل عضلية متمدّدة حينا ومتقلّصة حينا آخر صمّمها الفنان العراقي ونفّذها على نبض السرعة التي تحتدم في داخلها لحظة التحامها مع بعضها البعض.

وإن كانت “كلاب” سيروان باران دراسة سيكولوجية معمقة في الوحشية البشرية المعاصرة، فـ”حمار” الفنان السوري علاء أبوشاهين الذي عرض الفنان “ظهوراته” الحادة في صالة “آرت أون 56 ستريت” يتحدث عن تكسرات نفسية تمثلت أحيانا كثيرة بتشوهات شكلية انتصر عليها حماره أو تكيف معها. وثق المعرض سيرة حمار واحد في صيغ عيشه ومواجهاته البطولية المختلفة مع ثلاثة عناصر: ذاته، وحوادث يصعب تحديد ماهيتها، ولكن يسهل تحديد أهميتها.

ومن المعارض التي تناولت بتفحص دقيق للمسائل النفسية المترتبة عن أهوال الهجرات والحروب وموجة صعود التمييز الطبقي، نذكر المعرض الذي قدمته الفنانة اللبنانية شذا شرف الدين تحت عنوان “المدام” الذي حولت من خلاله عاملات المنازل إلى أميرات، ومعرض الفنان السوري أنس البريحي الذي تأمل في عوالم نوم المهاجرين واللاجئين في معرض يحمل عنوان “النائم”، حيث صور الفنان اللحاف بوصفه الرحم البديل.

ونذكر أيضا الفنان السوري إلياس إيزولي الذي قدم في صالة “أيام” تأملا عميقا في أحوال الطفولة السورية بشكل خاص والعربية بشكل عام بعد أشكال العنف التي تعرضت له.

أما “كتابات”، فهو معرض للفنان اللبناني جورج مرعب أنجزه بعد أن طلب منه أحد أصدقائه الأميركيين الذين تأذوا من حادثة 11 سبتمبر أن يرسم لوحة تعبّر عن الأسباب التي أدّت إلى المأساة، وقد ذكر الفنان أن رغبته في ألاّ ينتج عملا فنيا نمطيا دفعته إلى الغوص في تقصّي الحقائق والتعمّق في الأبحاث، ممّا جعله يطّلع على الممارسات الإجرامية التي قامت بها القوات العسكرية الأميركية تحت عنوان الدفاع عن الحريات والديمقراطية، وما قدمه مرعب هو عبثية التفاهم ولا جدوى التلاقي في عالم يخاطب فيه كل فرد ذاته فقط، وله وجهة نظره في معنى “لماذا حدث ذلك؟”.

من المعارض اللافتة جدا والتي عكفت على اجتراح الفرح من الحاضر والماضي على السواء، نذكر ما قدمته صالة “آرت سبيس”، إذ ضم التشكيل الفني إلى جانب التصوير الفوتوغرافي في رحلة فردوسية متأملة ومأخوذة بالأهوار العراقية الآن والبارحة.

سيرة حمار واحد في صيغ عيشه ومواجهاته البطولية
سيرة حمار واحد في صيغ عيشه ومواجهاته البطولية

والمعرض حدث مشترك للفنانة العراقية ليلى كبة كعوش وللمصور الفوتوغرافي العراقي الفنان إحسان الجيزاني، وضم مجموعة لوحات للفنانة استمدتها من روح الأهوار العراقية، وشاركها في هذا الاحتفال الشعري/البصري بتلك المساحة الجغرافية الساحرة الجيزاني بصوره الفوتوغرافية اللافتة بحساسيتها والتي يحار الناظر إلى معظمها إن كانت لوحات تشكيلية شُيّدت بتأن أم فوتوغرافية لا دور للتدخل الديجيتالي في تشكيل ملامحها وأبعادها.

وشهد العام الذي شارف على الانتهاء أيضا حدثين فنيين مختلفين بشكل كبير، ولكنهما متصلان في العمق، المعرض الأول، هو للفنانة اللبنانية كاتية طرابلسي وعنوانه “هويات دائمة” ويهجس بالعلاقة ما بين النزاع والثقافة والهوية، والثاني، هو للفنان والموسيقار اللبناني زاد ملتقى ويحمل عنوان “شمش”.

ففي حين قدّمت طرابلسي 47 منحوتة مختلفة، لكنّها جميعها مستوحاة من القذائف التي دمّرت بيروت خلال الحرب الأهليّة، بنى ملتقى مشروعه عبر تشييد عمارات افتراضية/ مرئية وتركيبات صوتية/ موسيقية ليتحدّث عن أرض النزاعات العربية. ويمكن لنا إطلاق عنوان واحد قادر على لمّ شمل معنى الحدثين الفنيين، وهو “لسنا إلاّ أنقاض ذاتنا”.

كما قدم الفنان اللبناني المتعدد الوسائط صلاح صولي معرضا تحت عنوان “حيوات السيد سعيد السبع” في صالة “أجيال” استرجع عبرها صورا وأشرطة فيديو لبيروت قبل وخلال الحرب من خلال سيرة “سعيد” السينمائي اللبناني الذي عايش الحرب وكان عنصرا فاعلا فيها.

13