عرائس البحر لها أشكال أخرى في لوحات جمان النمري

قدّمت الفنانة الأردنية متعدّدة الوسائط جمان النمري أعمالها الفنية الجديدة في صالة “جاكاراندا” بالعاصمة الأردنية عمّان تحت عنوان “عالم خفيّ”. وهو معرض لم يخرج عن خطها السابق المشغول بمساءلة العوالم الداخلية التي تستقرّ خلف العديد من المشاهد والأشياء.
أقامت صالة “جاكاراندا” بالعاصمة الأردنية عمّان معرضا لأعمال الفنانة الأردنية جمان النمري اختلطت فيه السخرية بالجدية والخيالي بالواقعي، ولم تخرج في أعمالها تلك المعنونة بـ”عالم خفيّ” عن منطق السرد الذي عودتنا عليه. فكل لوحة من لوحاتها تسرد قصة. ويشكّل المعرض برمته مجموعة قصص/لوحات تنتمي إلى جوّ واحد ومستوحى من المكان الذي اختارته الفنانة في معرضها الأخير وهو البحر.
بحر القصص
بحر جمان النمري يغصّ بالقصص، وهو ليس منفذا باللون الأزرق وتدرجاته فقط، بل يدخل إليه الرمادي والأسود والأخضر. أما الأخضر فيستحقّ منا التفاتة مترويّة، فهو الأكثر قوة في لوحاتها وأكثره ملاءمة لسردياتها.

أما السبب وراء ذلك، فيكمن في أن هذا اللون وبالأخص “نوعيته”، إذا صحّ التعبير، التي يجيء فيها مخضبا بزرقة خجولة يحيلنا إلى ضحالة الماء وأحوال الأنهار التي تشبه السواقي الصافية، وبالتالي يناسب أسلوب الفنانة الذي من الواضح أنه يعتمد على تلقائية التنفيذ المباشر وعلى انشغالها بإظهار ما هو خلف الصور على أنه قريب التناول وسريع الإجابة حين يتمّ استدعاؤه.
البحر عند الفنانة رقيق وضحل مهما بلغ عمقه، هو لا يعرف اللجج، بل الاكتظاظ بكائنات “تتنفّسه” وكأنه الأوكسجين في حد ذاته، هذا الذي يحتاجه البشر لكي يبقوا أحياء على ظهر البسيطة. ويمكن اعتبار هذه اللوحات من أنجح لوحاتها، فلوحات الفنانة تتكلّم بإسهاب وبصوت عال عن مسائل اجتماعية ونفسية. حيث يحضر الفرح والحب والحزن والصمت والقوة، لاسيما قوة المرأة في أكثر من منظار ظاهر ومباشر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن النمري من المناصرات لقضايا المرأة في مواضيع لوحاتها ومعارضها، ومن بين معارضها الأكثر أهمية في هذا الخصوص ذاك الذي حمل عنوان “راحة الروح”.
معرض دارت فصوله حول نساء/دمى مجنحات، وقد انطلقت فكرته من رؤيتها إلى دمى اعتادت أن تصنعها البدويات في جنوب الأردن.
ذلك المعرض الذي أقامته منذ أكثر من عشر سنوات كاد يكون منبعا لمعرضها الحالي لناحية الأفكار المطروحة فيه ولناحية وقوف الفنانة إلى جانب المرأة.
ولا يخفى على أحد أن التلقائية التي ترسم بها الفنانة عوالمها وتقصّ فيها قصصها تدفعنا إلى النظر إلى هذه القصص على أنها واقعية جدا ومستقاة من حياة أبطالها، نساء نادرا ما يشبهن الحوريات، كما يصوّرها غالبا المخيال الذكوري.
حضر الصبار والكرسي والطفل والمهرج المشبوه في معظم الأحيان (وهي ثيمات لم تغادر لوحات جمان النمري) في معرضها هذا دون أن يحضروا فعليا (باستثناء الصبار الذي نبت من ظهر إحدى نسائها)، وذلك من خلال الأفكار التي تناولتها لتخبرنا بمجريات فصول “العالم المخفيّ” وأحواله.
السباحة في المجهول
يكاد معرض جمان النمري الأخير يخبر المُشاهد أنه لا حاجة لها للاشتغال كثيرا على الجانب البصري، لأن الصدق لا يحتمل التدقيق والتشكيل المتروّي خطوطا وألوانا وتركيبا، وهو يدفع بالفنان إلى المباشرة وصب الصور على القماش لحظة نشوئها في الذهن.
ولكن يجب القول هنا إنه وإن كانت صفة “التلقائية” التي تتمتّع بها لوحات النمري، لاسيما في معرضها هذا، قد ساهمت في تشكيل عالم يحمل إمضاءها حتى وإن لم تضعه فعليا في أسفل اللوحة، فقد ساعد أيضا في سلب تلك الأعمال من فنية إنجازها.
تقول الفنانة في تقديمها لمعرضها “ما نعيشه في الواقع هو عالم مجهول وغامض، ومهما كنت متيقنا أنك تفهمه أو مدركا لمعانيه وأنّ في استطاعتك تخطي جميع العقبات مهما كانت معقدة، فأنت بالتأكيد ما زلت عالقا في الوهم”.
وتضيف “أشبّه نفسي دائما وعلاقتي بالحياة كالسمكة التي تعيش في فقاعة كبيرة إن خرجت منها قد تختفي، وأنا متأكّدة أن هناك عالما آخر حولي مليئا بالحياة، ولكنّني عالقة في شباكها وأمارس اصطياد الأرواح التي تحمل الحب في طريقها إليّ بسلاح الصبر الذي يمارسه الصيادون المهرة”. وتؤكّد “في الصيد كما الحب كما الحياة تتشابه المرأة والسمكة في معنى واحد للروح، والعطاء غير المشروط والخير والرزق بكرم لا محدود والصبر أيضا بلا ملل، فتعيش الروح التي في داخلي في فقاعتها سعيدة غير مبالية بوقوعها في شبكة الوهم والخيال لتسبح في عالمها الخاص دون خوف من المجهول”.
البحر عند النمري رقيق وضحل مهما بلغ عمقه، لا يعرف اللجج، بل الاكتظاظ بكائنات تتنفّسه وكأنه أوكسجين الحياة
بالتأكيد أن المرأة في لوحات النمري قوية وتمتلك القدرة كما السمكة التي شبّهت نفسها بها في “الانزلاق” السريع خارج شباك أيّ صياد لم تدعه أو لم تقبل باصطياده لها. وكمثال على ذلك، تبدو المرأة في حالات الحب في لوحاتها الصياد والطريدة في آن واحد ووفق معيارها هي فقط.
نقول في النهاية، حبذا لو تركت الفنانة أفكارها الشيقة تتريّث في التحقّق تشكيليا، وبذلك تكون قد ساوت ما بين الإصغاء إلى الأفكار والتفنّن في تظهيرها بصريا.
وجمان النمري حاصلة على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة اليرموك، وأقامت ستة معارض شخصية وحضرت العديد من الإقامات الفنية في دول مختلفة. كما شاركت في العديد من المعارض الجماعية داخل الأردن وخارجه وفي العديد من الندوات وورش العمل.
وتُعرض أعمالها الفنية في العديد من المؤسسات والمعارض والمتاحف الدولية مثل متحف الأدب الوطني ببوخارست في رومانيا، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، ومتحف جلعاد للثقافة والفنون في الأردن، والمتحف الوطني للفنون في كوالالمبور في ماليزيا، كما تمّ اقتناء مجموعة من أعمالها وعرضها في متحف الفن المعاصر في ينشوان بالصين.
وحازت الفنانة على منحة الإبداع الدولية من مركز لاريكتوريا في برشلونة بإسبانيا عام 2009، كما حصلت على الجائزة الثالثة في مسابقة التصوير الثانية من المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة في العام 2002.