عبدالكريم برشيد: التجديد منطقة محرمة في الثقافة العربية

كرّم المهرجان الوطني الثالث للمسرح في مدينة خريبكة المغربية، الذي نظمته جمعية الرواد، بالتعاون مع وزارة الثقافة والمجلس البلدي، المنتهية فعالياته في مايو الماضي، رائد المسرح الاحتفالي المغربي عبدالكريم برشيد، تقديرا لإبداعاته في مجالات التأليف والنقد والتنظير المسرحي، ومكانته المرموقة في المسرح العربي.
الأربعاء 2015/06/03
عبد الكريم برشيد: المسرح العربي وجود مركب ومعقد

يعدّ المغربي عبدالكريم برشيد من المسرحيين العرب القلائل الذين نظّروا للمسرح بعمق معرفي وذهن تأملي متقد ورؤية فكرية شاملة مدركة لأبعاده الثقافية والاجتماعية والجمالية.

وهو في معظم كتاباته، سواء ما تعلق منها بالاحتفالية أو بالمسرح العربي على نحو عام، لم يكتف بالدعوة إلى التأصيل، بل تجاوز ذلك إلى “فعل التأسيس”، أي الانطلاق من درجة الحفر، أو الصفر أو ما قبل الصفر، لتأسيس مسرح عربي جديد، اعتمادا على الذاكرة الجماعية أولا، والتي يمثلها التراث، ويجسدها التاريخ، وعلى كل علوم العصر وفنونه وآدابه وصناعاته ثانيا.

ذلك لأنه، كما يرى، من غير المعقول أن يبدأ المسرحيون العرب من حيث انتهى الآخرون، بل ينبغي أن يجدوا بدءهم الخاص، ويدركوا أن أي فعل حقيقي لا يمكن أن يتحقق إلاّ في إطار تأسيس حقيقي.

مفكر مسرحي عميق

في كتابه الجديد “التأسيس والتحديث في تيارات المسرح العربي الحديث”، الصادر عن مجلة دبي الثقافية (2014)، يحلل برشيد واقع المسرح العربي اليوم من خلال تجاربه المتقاطعة والمتناقضة، التي تقف وراءها جماعات كثيرة من المسرحيين، تتعايش وتتفق كلها في الانتساب إلى فن المسرح، لكنها تختلف من حيث فهمها لطبيعة هذا الفن، ومن حيث الرؤية والأدوات والمنهجيات والوسائل والغايات.

ويخطئ من يظن، حسب رأيه، أن هذا المسرح هو مسرح واحد، أو أن طريقه يمكن أن يكون طريقا واحدا، أو أن مهمته يمكن أن تختزل في كتابة المسرحيات أو في إنتاجها وترويجها فقط، ذلك لأننا أمام وجود مركب ومعقد، وأمام حالة لا يمكن أن تشبه إلاّ نفسها. وعليه، فإنه لا يمكن قياس هذا المسرح العربي الجديد بقياسات المسرح الغربي القديم، ولا يمكن تناسي أنه مطالب بأن يكون أولا، ويعي هذه الكينونة ثانيا، ويطورها فكريا وجماليا ثالثا، وأن يبحث لها عن أسمائها ومصطلحاتها رابعا، وأن يجد لها موقع قدم في خرائط المسارح.

ولعل هذا هو ما جعل مهمة هذا المسرح تكون مركبة ومعقدة (مهمة مزدوجة في الوقت نفسه)، وتكون أخطر مما يتطلبه المسرح الغربي مثلا، والذي تنحصر مهمته اليوم في أن يقاوم الشيخوخة والموت، وألاّ يهزم في معركته أمام وسائل الاتصال الحديثة. وهذه الجماعات يحصرها برشيد، مؤقتا، في ثلاث فئات:

المجددون في المسرح العربي كانوا موضوعين دائما في موضع الشك والريبة، ومتهمين بشتى الاتهامات

الأولى: هي تلك التي تمارس المسرح بفطرية، وبآلية، وتشتغل عليه وهو في مستواه الأوّلي والابتدائي، والذي هو مستوى المهنة والحرفة فقط، ويكمن جوهر هذا المسرح في أنه فرجة خالصة، فرجة بريئة كل البراءة من العلم والفكر، ومنفصلة تماما عن كل سؤال أو مسألة.

الثانية: هي التي أعطت لهذا المسرح جوهره الحقيقي، وارتفعت به من درجة الفرجة البسيطة إلى درجة الفن والأدب، وإلى عتبة الفكر والصناعة الثقيلة، وقد أدركت أن هذا المسرح الوافد يحتاج إلى توطين في الوطن العربي، وأنه بحاجة ماسة إلى تأصيل في التربة الثقافية العربية، وأن أدبه يحتاج إلى أن يغرس في حدائق الشعر والنثر العربيين، وأن فنونه تحتاج إلى أن تكون مرتبطة بروح الاحتفال الشعبي العربي، وأن تكون جزءا من الظاهرة الفرجوية المعروفة في العالم العربي.

أما الجماعة الثالثة فهي التي رأت أن الأمر أكبر وأخطر من أن يكون مجرد “تسييق” للآداب والفنون الغربية في السياقات العربية الجديدة، وأن الأمر يحتاج إلى تأسيس جديد يُضاف إلى كل عمليات التأسيس الأخرى، والتي عرفتها كل مسارح العالم وتياراته واتجاهاته ومدارسه أيضا.

وذلك عبر مختلف الفضاءات الجغرافية المتباعدة، والحقب التاريخية المتباينة والمتعاقبة زمنيا، ولهذا لم تقف هذه الجماعة عند حد الاشتغال المهني، مثل الجماعة الأولى، ولا عند حد التأصيل، مثل الجماعة الثانية، وإنما تجاوزت ذلك إلى فعل التأسيس.

ويأتي تأكيد برشيد على ضرورة التأسيس في المسرح العربي وأولويته وأسبقيته أيضا انطلاقا من قناعته بأن ما يقوم به المسرح الغربي الحديث اليوم من مغامرات تجريبية ما كان سيحدث لو لم يكتمل فعل التأسيس فيه، ويصل إلى حدّه الأقصى، فبعد أن كفر بكل شيء أصبح فعل التجريب فيه ضرورة ملحة، بل نوعا من اللعب، أو من الترف، أو من التدمير الذاتي، الذي يمارسه هذا المسرح على قواعده وأسسه وثوابته التي لا يمكن أن تقوم لها قائمة من دونها.

برشيد يرى أن جماعة المسرح الاحتفالي هي في طليعة هذه الفئة، فقد أكدت في بياناتها وإبداعاتها وأدبياتها المتعددة، على وضع هذا التأسيس داخل جدلية البناء والتحديث

المسرح الاحتفالي

يرى برشيد أن جماعة المسرح الاحتفالي هي في طليعة هذه الفئة، فقد أكدت في بياناتها وإبداعاتها وأدبياتها المتعددة، على وضع هذا التأسيس داخل جدلية البناء والتحديث، وجدلية التأسيس والتجديد، من منطلق أن ما تؤسسه الجماعة حديثا لا يمكن أن يكون إلاّ حديثا أيضا جسدا وروحا، شكلا ومضمونا، وحالة وتعبيرا، وهذا ما يفسر أن ترتبط كل حركات التأسيس الفكري والجمالي، عبر التاريخ، بالجديد والتجديد والدعوة إلى القيم الإبداعية الجديدة.

ومع ذلك كان هذا التجديد دائما منطقة محرمة في الثقافة العربية، وكان المجددون موضوعين في موضع الشك والريبة، ومتهمين بشتى الاتهامات، على أساس أن “أي جديد أيا كان هو بالضرورة نقص بالقياس إلى القديم”، كما يقول مصطفى صادق الرافعي.

وبما أن الاحتفالية ذات منحى تجديدي، فإنها لم تسلم من ذلك، وقد وُجّهت إلى أصحابها تهم كثيرة مثل: الغرور، والنرجسية، وعشق الزعامة، والشوفينية، وقتل الأب، وارتكاب “جريمة” إدخال التفكير في المسرح، والإنشاء والتجريد، والتطاول على المسرح العالمي، والخروج عن الإجماع، الذي يمثّل في رأي برشيد، حجة واهية لتسويغ الكسل النظري والإبداعي.

16