عبدالحميد براهيمي رئيس حكومة جزائري معارض ينتهي شريدا دون جواز سفر

برحيل عبدالحميد براهيمي إلى دار البقاء تكون المعركة الأزلية بين التيارين القومي والفرانكفوني في الجزائر، قد جنحت مؤقتا إلى السلم، فقدر الجزائر أن تعيش على وقع السؤال الذي لا جواب له، هل كان الضباط الجزائريون الفارون من الجيش الفرنسي في الرمق الأخير من ثورة التحرير، اختراقا منظما ومدروسا للثورة، أو توبة قبل فوات الأوان.
المناضل التاريخي ورئيس الحكومة الأسبق الذي وافاه الأجل منذ أسابيع قليلة، يعدّ أحد أذرع الجبهة القومية "التيار الوطني"، التي وقفت في وجه تمدّد ما يعرف بـ"اللفيف الفرنسي"، في مفاصل الدولة ومؤسساتها، وتوجيه السياسات الرسمية للبلاد نحو التبعية لفرنسا كاستراتيجية سياسية واقتصادية وثقافية وأيديولوجية.
معارك طاحنة
التيار القومي الذي جمع بين المحافظين والإسلاميين بشكل أقل، خاض معارك طاحنة منذ السنوات الأولى للاستقلال، وكانت أول جريمة سياسية قد ارتكبت على خلفية الصراع المحتدم بين ما كان يعرف بجيش التحرير وبين ما يعرف بـ"ضباط فرنسا"، وتم إعدام أصغر عقيد في جيش الجزائر المستقلة محمد شعباني، العام 1963، ولو كان القرار على لسان قادة الدولة، فإن الإيعاز والشحن كان من طرف هؤلاء.
ينحدر براهيمي من عائلة جمعت بين التوجهين القومي والإسلامي الإصلاحي، فوالده مبارك الميلي، كان أحد قادة جمعية علماء المسلمين الجزائريين، التي اشتغلت على الإصلاح الشامل ثقافيا واجتماعيا ودينيا خلال الحقبة الاستعمارية، وشقيقه محمد الميلي، هو وزير تربية سابق.
وفيما كانت المعركة تدار في حدود الخصومة الشريفة، شغل براهيمي، منصب رئيس الحكومة في ثمانينات القرن الماضي تحت رئاسة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، غير أن تحول مطلع التسعينات الذي رجح كفة ما يعرف بصقور الجيش الذين تدخلوا لوقف المسار الانتخابي العام 1992، بعدما استحوذ إسلاميو جبهة الإنقاذ على أول انتخابات نيابية تعددية في البلاد، أوحى إلى رموز التيار المحافظ أن اللعبة انتهت بين أيديهم، فاضطر الرجل إلى المنفى الاختياري في بريطانيا ليتفرغ للبحث والتأليف والتدريس.
انتقام السلطة
يرى العارفون بتقاليد السلطة في الجزائر بأن الخلافات التي كانت تدار بين رموز السلطة تحت شرف الخصومة، انزلقت منذ بداية العشرية الدموية، إلى تصفية حسابات قوية وإلى كسر العظم، فالرجل الذي يحمل في سيرته "رئيس حكومة سابق"، حرم من جواز سفره الجزائري ومن العودة إلى وطنه حتى وهو في أرذل العمر، في مشهد يكرس لغة الانتقام من أفكار ومواقف سابقة له.

وفي كتابه "أصل الأزمة الجزائرية: 1958 ـ 1999" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، حقق براهيمي صدى واسعا لدى الإعلام، خاصة أنه لم يقصر اتهاماته على الضباط السابقين في الجيش الفرنسي، بل تعداهم إلى رؤساء الحكومات الذين جاؤوا بعده، فاتهم سيد أحمد غزالي بمحاولة بيع بئر نفطي في الجنوب بسعر زهيد، واتهم رضا مالك بتنفيذ أوامر فرنسا، وحمّل بلعيد عبدالسلام مسؤولية الفساد.
براهيمي ابن مدينة قسنطينة العريقة في شرق البلاد، ظل مقاوما للفيف الفرنسي داخل الدولة، حتى وهو في ديار المهجر، وحصر أزمة البلاد في التيار المذكور في مختلف المحاضرات والمؤلفات، على غرار كتاب "في أصول الأزمة الجزائرية 1958 - 1999"، و"أبعاد الاندماج الاقتصادي العربي واحتمالات المستقبل"، و"العدالة الاجتماعية والتنمية في الاقتصاد الإسلامي" وغيرها.
كما قام الكتاب بترتيب لائحة بأسماء الضباط الفارين من الجيش الفرنسي والملتحقين بجيش التّحرير عبر الحدود من 1957 إلى 1961، ذكر فيها 26 شخصا بينهم كل من عباس غزيل، محمّد العماري، محمد تواتي، أحمد بن شريف، العربي بلخير، عبدالمالك قنايزية وخالد نزار، وهم جنرالات كبار عرفوا بوصف "الصقور"، بسبب مقاربتهم الأمنية الحادة في التعاطي مع الإسلاميين ومع المعارضة السياسية، وهو ما كلفه تهم التنسيق مع الأميركان ومع الإسلاميين للحصول على السلطة.
خنجر في الخاصرة
بنى الرجل مقاربته السياسية والفكرية على تحميل إخفاقات الاستقلال الوطني منذ مرحلة الاختراق في 1958 إلى غاية الآن، للفيف الموالي لفرنسا داخل الدولة، فهو علاوة على أنه كان "الخنجر الذي غرز في خاصرة الاستقلال"، حيث اضطلع بمهمة إلحاق الجزائر بفرنسا عبر تيار ثقافي لغوي يخدم أجندات أخرى، ولا علاقة له بالمجتمع الذي ينتمي إليه.
ولأن اللعبة خرجت من أيدي المحافظين بشكل لافت منذ مطلع التسعينات، فإن قدوم بوتفليقة إلى الرئاسة، رغم أنه ينحدر من جيل الثورة التحريرية، لم ينصف هؤلاء، وحاول تطويع التيارين لخدمته شخصيا وليس من أجل تسوية تاريخية بينهما، ولذلك كانت الغصة جارحة في حلق الرجل.
وكانت دموع الشوق والحنين كثيرا ما تغلبه، وهو الذي وجد نفسه من صفوة النخبة إلى مهاجر دون جواز السفر، وتحت وطأة الحالة التي توشّحت بستار إنساني، تدخل وسطاء وإعلاميون من أجل تمكين الرجل من جوازه والسماح له بالعودة لأرض وطنه، خاصة وأنه صرح في أكثر من مرة في لندن بأنه يريد أن يموت ويدفن في الجزائر.
أخطبوط الفساد لم يبدأ اليوم
يبدو أن هاجس براهيمي ظل يؤرق خصومه حتى وهو في أواخر أيامه، حيث ذكرت المصادر بأن السماح بالعودة العام 2016، كان مشروطا بالصمت وعدم الظهور أو التصريح لوسائل الإعلام. ليبقى أول من فجّر أخطبوط الفساد في الجزائر في ثمانينات القرن الماضي لما كشف في محاضرة له بجامعة الخروبة في العاصمة، بأن حجم الأموال المنهوبة يقدر بـ26 مليار دولار، واستند في ذلك إلى بيانات وأرقام حول المبادلات التجارية والاقتصادية والصفقات المبرمة.

ويذكر الإعلامي نصرالدين قاسم في شهادة له عن براهيمي، إثر لقاء جمعه به في الدوحة القطرية، أنه "بدا الرجل حنونا عطوفا طيّبا متأثرا ومشتاقا للجزائر ولم يتوقف عن الحديث معي.. لعله اشتم في رائحة الوطن فاسترسل في الكلام، حتى أنني تساءلت حينها كيف كان هذا الرجل الطيب وزيرا أول في نظام صقور مارس على الجزائريين كل أنواع الغلق والتضييق".
ويضيف "لعلّ أخطر ما أسرّ لي به الرجل متأثرا هو حرمانه من التقاعد وجواز السفر، ورفض السفارة الجزائرية في لندن تجديد جوازه فاضطر لاستعمال جواز سفر بريطاني في تنقلاته، نظرت إليه مستغربا مستفهما وإذ بعينيه تغرورقان بالدموع تأثرا وتحشرجت كلماته.. صُدمت بالخبر ولم أجد ما أقول، بعد هنيهة صمت وتأثر، قلت له هل اتصلت بالسفير فأشار إليّ برأسه أن يا حسرة، وفهمت أن السفير أحمد عطاف على ما أعتقد، لم يكلف نفسه حتى استقباله في السفارة وليس حرمانه من الجواز فحسب".
ومع ذلك يبقى متهما بأنه هو المنظر لتفكيك النسيج الصناعي والاقتصادي الموروث عن حقبة بومدين، في إطار مشروع الإصلاحات المعلن عنها من طرف خلفه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وهو المخطط الذي انتهى إلى الفشل بعد أن عجزت الخزينة عن الاستمرار في دعم المؤسسات المستجدة حينها، مما أحالها بعد ذلك إلى الخصخصة والدينار الرمزي، مما أفرغ البلاد من نسيج صناعي واقتصادي تبخر تحت رياح الاستيراد.
القضية صدمت حينها الرأي العام والسلطة، ورغم أن الفساد كان مستشريا في المؤسسات ومفاصل الدولة، إلا أن الحقيقة المعلنة أسست لمسلسل استمر في نخر مقومات البلاد إلى غاية الآن، وكبدتها أرقاما خيالية إلى درجة اللبس والغموض القائم حول طرق وفصول إنفاق أكبر عائدات حققتها الجزائر (1200 مليار دولار أميركي) خلال العشريتين الماضيتين، دون أن يظهر أثرها على نمو البلاد وتحسن حياة الجزائريين.
ويتابع قاسم "غادر الرجل قاعة الفندق بخطى متثاقلة، فلم أتمالك نفسي حتى شعرت بالدموع تنهمر هكذا وكأني ودعت أخا أو عزيزا أو صديقا حميما، رق قلبي لحاله وأحست بمشاعر الظلم التي تحرق قلبه، وبثه وحزنه وهوانه على المسؤولين الذين جاؤوا من بعده، والتنكر الذي يعانيه، وحرمانه من أبسط حقوقه في الحصول على جواز سفر وتقاعده باعتباره مواطنا جزائريا أفنى حياته متقلبا في مناصب المسؤولية، لا لشيء سوى لأنه ضاق ذرعا بنظام فاسد ازداد فسادا فعارضه وفضح بعض ممارساته".
ويذكر عنه أنه نبّه الرئيس الشاذلي بن جديد يوم تعيين العربي بلخير أمينا عاما لرئاسة الجمهورية، لكن الشاذلي بن جديد لم يعر اهتماما لكلامه، وأن بلعيد عبدالسلام، الذي كان وزيرا للاقتصاد ورئيسا للحكومة لاحقا، تعامل مع اليهودي البلجيكي "سيمون" الذي تربطه علاقات وطيدة مع الكارتل الفرنسي، وأن عبدالسلام عارض بقوة مشروع مرور الغاز الجزائري إلى أوروبا عبر تونس والمغرب، لأنهم حسب رأيه أعـداء وفضل مرور الغاز عبر البحر.
ذهب رئيس الحكومة الراحل في عدائه مع الصقور إلى اتهامهم في تصريحات صحافية له، باغتيال الرئيس الراحل الهواري بومدين، ومدير جهاز الاستخبارات الأسبق قاصدي مرباح. وذكر بأن "ضباط حزب فرنسا" هم من قتلوا الرئيس الراحل هواري بومدين، وقائد جهاز المخابرات العسكرية قاصدي مرباح، فقال عن الأول "لقد سمموا بومدين، دخل إليه أناس مقربون ومخربون ودسوا له السم"، أما الثاني فقال "بالنسبة لاغتياله أنا متيقن أن ضباط فرنسا هم الذين قتلوا مرباح بالتأكيد، وهم من قاموا بأكبر وأشهر الاغتيالات التي عرفتها البلاد".
وتذكر شهادات بأن الخلاف اشتد بقوة بينه وبين القيادة الجديدة للبلاد في مطلع تسعينات القرن الماضي، غداة استقالة أو إبعاد الرئيس الراحل بن جديد، حيث اعتبر أن ما قام به المجلس الأعلى للأمن من إيقاف للمسار الانتخابي وتأسيس المجلس الأعلى للدولة، انقلابا عسكريا قام به ضباط حزب فرنسا، وهذا ما جر عليه غضب أصحاب القرار آنذاك، ودفعوه إلى مغادرة وطنه حتى آخر لحظة في عمره.