عائلة ابن إسماعين.. الابن أخمد النيران والوالد أطفأ الفتنة

حمائم سلام جزائرية تطارد غربان الدم والأحزان.
السبت 2021/08/21
رحيل يكتب تاريخا جديدا

ظلّ إلى غاية النفس الأخير من حياته صامدا مقاوما لجلاديه. وبينما كان هؤلاء مدججون بأقوى أسلحة الوحشية والهمجية والبربرية، كان الفتى الضحية يستقبل الموت كالعريس ليلة عرسه، وهو مدرك أنه سيكتب برحيله تاريخا جديدا لبلاده، يميط فيه اللثام عن وجه لئيم يريد للدماء والأحزان والخوف ألا تبرح الديار، لكن التاريخ العريق للعائلة خطه الابن جمال وبعده والده نورالدين وقبلهما العم خالد.

كانت مجرد صيحة، أو دموع غزيرة من طرف الوالد أو أحد أفراد العائلة، ليل التاسع من أغسطس الجاري كافية لفتح حمام دم له بداية وليست له نهاية في الجزائر. لكن صبر وجلد الوالد نورالدين وتصريحه السريع بأن “من قتل ابنه جمال مجموعة معزولة وليس القبائل، والقبائل هم إخوتنا وأقرباؤنا وأصهارنا، وهم منا ونحن منهم” فوّتت على المتربصين فرصة إشعال مواجهات عرقية تعود بالبلاد إلى سنوات العشرية الدموية.

نيران تيزي وزو

أطفأ الابن النار في تيزي وزو، وأطفأ الوالد الفتنة في ربوع البلاد، لتكتب عائلة ابن إسماعين تاريخا جديدا ستتداوله الأجيال حين تسأل عمن أنقذ الجزائر من انزلاق دموي، وعمن غلّب مصلحة الوطن والشعب على الفقد الكبير والانتقام للجريمة المروعة.

كان مدبر ومنفذ الجريمة الصادمة يريد أن يدفن تحت التراب نموذجا إنسانيا مشرقا، بالضرب والطعن والتنكيل والسحل والحرق، ليقتل مع جمال “جيجي” روح السلام والفن والقيم السامية في الشعب الجزائري، الذي هب هبة رجل واحد من الحدود إلى الحدود لإسعاف ومساعدة وإغاثة المتضررين من موجة الحرائق في وسط وشرق البلاد.

فقد كان جمال الرسام والموسيقي يحمل على أكتافه الماء إلى الغابات من أجل أن ترتوي الطيور والحيوانات خلال فصل الحر، فهو الإنسان البريء الطيب الذي صادق الحيوانات والطيور والريشة والقيتارة، وطموح الجزائريين من أجل التغيير السلمي، فلم يتخلف عن مسيرات الحراك الشعبي ليضفي عليه بلمسته بصمة فنية وإنسانية.

الموت كالمسيح

جمال الرسام والموسيقي كان يحمل على أكتافه الماء إلى الغابات من أجل أن ترتوي الطيور والحيوانات، محتضناً أحلام الجزائريين بالتغيير.
جمال الرسام والموسيقي كان يحمل على أكتافه الماء إلى الغابات من أجل أن ترتوي الطيور والحيوانات، محتضناً أحلام الجزائريين بالتغيير.

رحل جمال وبقي قبره في مدينة خميس مليانة رمزا للسلام والحب والأخوة بين الجزائريين، وقبلة لزواره ليتبركوا به كلما أحاطت بهم نذر الفتن. وكان والده حمامة سلام تلقي بريشها نسمات السكينة والهدوء، بينما يقبع جلادوه في أقفاص الندم وعذاب الضمير ولو حاولوا التلاعب بالحقيقة لأنها ستظهر يوما ويعرف الناس مَن أرادوا شرا بعائلة ابن إسماعين وبالشعب الجزائري.

يروي أحد رفاقه قائلاً “يوميْن قبل الفاجعة، كان عزيزنا جمال قد بدأ بقراءة رواية ‘المساكين’ لدوستويفسكي، وعندها قال له الأستاذ مازي: كل الذين يقرأون لدوستويفسكي يريدون الموت مثل سيدنا المسيح أو ينتحرون، فهل أنت تريد ميتة كهذه؟ عندها أجابه جمال رحمة الله عليه: أجل، أريد أن أموت مثل المسيح. ضحى بنفسه من أجل الحقيقة، من أجل الحياة، من أجل الإنسانية“.

وتذكر سيرة الراحل أنه ولد عام 1987، وكان يسكن في مليانة. أما أملاكه فقليلة لكنها ثمينة؛ لوحات فنية وأبيات شعرية، قيتارة، ريشة وفكرة عنوانها “الحياة”، الحياة في الثقافة والفن والمواطنة.

جيل جمال من الشباب رأى النور في جزائر الأزمة، مع المجتمع المأزوم والاقتصاد المدمر والسياسة العرجاء، وقد عاش طفولة صعبة كباقي أطفال جيله، ودخل المدرسة في العام الذي كان فيه الرصاص هو لغة السياسة

هو ككل شباب جيله رأى النور في جزائر الأزمة، مع المجتمع المأزوم والاقتصاد المدمر والسياسة العرجاء، عاش طفولة صعبة كباقي أطفال جيله. دخل المدرسة في 1993، العام الذي كان فيه الرصاص هو لغة السياسة؛ فقد كانت أخبار الموت والقتل الوحيدة التي تسيطر على الجزائر بأحيائها وقراها، ومدنها وأريافها، في جزائر قدست حينها الموت وبررت القتل باسم الدفاع عن الإسلام تارة أو باسم الدفاع عن الوطنية والجمهورية تارة أخرى.

وتذكر إحدى الشهادات أن جمال لم تستوعبه منظومة التدريس وتوقف في التاسعة متوسط عام 2002، ومن حسن حظّه أن زوج خالته هو الفنان الراحل المعروف في مليانة جمال توات، الذي تعلم منه مدرسة الحياة والفن وعلى يديه تلقى مبادئ الشغف باللوحة والقيتارة وحب الطبيعة والحياة.

وكان الرجل الأعزل يحمل طموح تغيير حياة تكرهها منظومة متشبعة بثقافة إبليس “أنا خير منه”، منظومة مبنية على الإقصاء، منظومة تغرس الكراهية وتعيش في الكراهية وتستمر بالكراهية، هكذا تختصر الكلمات للدلالة على حجم الانهيار الذي أراد جمال ورفاقه تغييره بحراك شعبي سلمي وحضاري.

قبل التاسع من أغسطس ودّع أهله في خميس مليانة، وتوجه إلى تيزي وزو ضمن مئات المتطوعين والمغيثين للمساعدة على إطفاء موجة الحرائق، ولا يحمل إلا حقيبته على كتفيه. لكنه لم يكن يدري المسكين أن وحوشا آدمية تدبر له مكيدة، وأنه لن يعود إلى رفاقه وورشة رسمه وقيتارته وطيوره في جبل زكار.

تسارعت الأحداث وتواترت التسجيلات والإفادات عن جريمة نكراء، مستلهمة من مشاهد السحل في مقديشيو  في بداية تسعينات القرن الماضي وحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة من طرف داعش عام 2015، ومن مدرسة العشرية الدموية في الجزائر، بل أكثر وأكبر لأن المدبرين والمنفذين كانوا يريدون قتل جمال ومعه الشعب الجزائري، عبر البث المبرمج والتدريجي والمتواتر لتلك اللحظات الأليمة، فمن الضرب والطعن والتنكيل إلى السحل والحرق حيا ثم ذبحه أمام الملأ.

قُتل الشاب وقَتلَ الجزائريين

الروايات حول الجريمة تتضارب، أما السلطة الأمنية فقد قدّمت مقاربتها الأولية موجّهة أصابع الاتهام لحركة “رشاد” الإسلامية وحركة استقلال القبائل “ماك” بالوقوف وراء الحادثة المروعة، وتم توقيف أكثر من ستين مشتبها به.
الروايات حول الجريمة تتضارب، أما السلطة الأمنية فقد قدّمت مقاربتها الأولية موجّهة أصابع الاتهام لحركة “رشاد” الإسلامية وحركة استقلال القبائل “ماك” بالوقوف وراء الحادثة المروعة، وتم توقيف أكثر من ستين مشتبها به.

وككل جريمة مسيسة ومؤدلجة، يقفز الكل إلى الواجهة، بين مصاب بالذهول أو حزين وبين باحث نار يريد أن تشتعل وتتوسع لتأكل البشر وليس الغابات فقط، ومنهم من أدى دور الوالدة أو شقيقه يبكيه ويرثيه أمام الملأ من أجل تأجيج مشاعر الانتقام، رغم أن الوالد الصبور ظل هادئا مدركا للعبة، ونفى أن تكون تلك هي الوالدة أو يكون ذاك هو شقيق الضحية.

تضاربت الروايات والإفادات والقراءات، وقدّمت السلطة الأمنية مقاربتها الأولية للجريمة، حيث وجهت أصابع الاتهام لحركة “رشاد” الإسلامية وحركة استقلال القبائل “ماك” بالوقوف وراء الحادثة المروعة، وتم توقيف أكثر من ستين مشتبها به، كما تم بث بعض الإفادات لهؤلاء.

لكن الشارع الجزائري مازال يبحث عن الحقيقة، لأن الكثير من الألغاز مازالت تحيط بالجريمة والكثير من التساؤلات تحتاج إلى إجابات وافية، وخصوصا التساؤلات المتعلقة بحضور الوسيلة الإعلامية “أوراس تي في” وتسجيل تصريح له في نفس اليوم وظهوره “مشيدا بسكان القبائل وبحجم الخسائر الكبير وداعيا للتضامن” وعجز مخفر الشرطة عن حمايته من أيدي العشرات الذين كان من بينهم الغاضب لما أشيع خبر العثور على شخص بصدد إشعال النيران والمجرمون والمترصدون والمخططون، لاسيما وأنه لجأ إليهم للإفلات من هؤلاء، وأيضا التساؤلات المتصلة بما حدث لحوالي 200 شخص من مختلف الأعمار أحاطوا بساحة الجريمة وتابعوها ببرودة أعصاب، وفوق ذلك كان التسجيل والتصوير والتقاط السيلفي مع الجثة على أشده.

قميص عثمان

مجرد صيحة من طرف الوالد نورالدين كافية لفتح حمام دم في الجزائر، لكن صبره وجلده فوّتا على المتربصين فرصة إشعال مواجهات عرقية تعود بالبلاد إلى العشرية الدموية. (في الصورة أعيان تيزي وزو تقدّم العزاء لأسرة جمال).
مجرد صيحة من طرف الوالد نورالدين كافية لفتح حمام دم في الجزائر، لكن صبره وجلده فوّتا على المتربصين فرصة إشعال مواجهات عرقية تعود بالبلاد إلى العشرية الدموية. (في الصورة أعيان تيزي وزو تقدّم العزاء لأسرة جمال).

وإضافة إلى مطالبة الجميع بتحقيق العدالة لجمال كل واحد يريد الحقيقة على مقاسه، ليكون بذلك “قميص عثمان” في جزائر القرن الحادي والعشرين، فالسلطة اتهمت حركتي “رشاد” و”ماك” بالوقوف وراء الجريمة المضاعفة “موجة الحرائق وموت جمال”، والتفاصيل المتبقية ستنحو نحو ما تريده من وراء الخيار الذي يعتبر التنظيمين حركتين إرهابيتين، وينتظر صدور قانون تفصيلي  لاجتثاثهما من البلاد.

وفي المقابل يطالب البعض من المحسوبين على المعارضة السياسية بتحقيق دولي أو تكليف هيئة مستقلة بالتحقيق، وبرر ذلك الناشط السياسي فضيل بومالة بأن الاستماع إلى جميع الأطراف -بما فيها المؤسسات الرسمية- هو السبيل الوحيد لاستجلاء الحقيقة.

وهناك شق آخر يريد التوصل إلى نتائج تتوافق مع حملة تشويه وشيطنة الحراك الشعبي، على اعتبار أن منفذي الجريمة يحسبون على المناوئين للسلطة، وأن شعار “المدنية” هو شعار زائف تبخر في أول امتحان حين امتلك هؤلاء سلطة القرار في ساعة زمن فنفذوا جريمة شنعاء، وهو أمر يدعو إلى تعزيز هيبة الدولة وتشديد القبضة الأمنية لإنهاء حالة عصيان مؤسسات الدولة “الحراك الشعبي”. وفيما أقر هؤلاء بضرورة مراجعة المسائل المتعلقة بالراية الأمازيغية، وبالمكاسب اللغوية والثقافية التي حققتها الهوية المحلية، لم يتوانوا في الدعوة إلى تحرير المنطقة ممن يصفونهم بـ”المختطفين المتطرفين” و”إعادة تيزي وزو إلى الحظيرة الوطنية”.

لكن طرفاً آخر يعكف على تلطيف الأجواء وتهدئة الخواطر، ويريد تحويل الجريمة إلى فرصة لتعزيز الوحدة الوطنية والتلاحم الشعبي، ونبذ خطاب الكراهية ووقف زرع الأحقاد، وتكريم عائلة ابن إسماعين بوسام السلام الوطني، اعترافا بتضحية الابن
جمال ودور الوالد في إخماد نار الفتنة العرقية، ويعتبرونه شهيد الحراك الشعبي السلمي الحضاري، وأن العنف لم يكن في يوم ما في فكر وسلوك جمال ورفاقه.

يقول عنه صديقه طبيب الأسنان لطفي خواتمي بأنه كان “متشبعاً بالقيم الإنسانية، ويمكنه العيش في أي مكان في العالم، هو شاب لا يتوقف عن العمل. لا يعرف اليأس طريقا إلى قلب جمال، فقد كان يحمل مشروع المواطنة، ولهذا كان في الحراك الشعبي منذ بدايته، ولذلك كان يأمل أن ينتهي الحراك الشعبي ببناء دولة المواطنين والمواطنات”.

 ولأنه جُبل على الفن والأدب فقد كان على وشك إطلاق مشروع “فن من الصباح إلى الليل”، والذي سعى لتجسيده مع جمعية أصدقاء مليانة للثقافة والفن، وكان الهدف منه غرس الثقافة والفن في الشارع، لأن جمال كان متيقنا من أن رمي الثقافة في الشارع كفيل بأن يحتضنها الشعب لمواجهة الجهل والكراهية، كما احتضن الشعب ثورة التحرير من الاستعمار وثورة رفض الفساد والاستبداد.

وكانت آخر لوحة فنية أنجزها الراحل هي إعادة رسم آخر لوحة لفان غوخ قبل انتحاره، وهي لوحة “جذور”، والتي كانت رسالة وداع الفنان العالمي، كما أن آخر قصيدة شعرية كتبها كانت عن الموت بعنوان “دار الاستقرار”، وكأن جمال أراد توديع الدنيا من بوابة الثقافة والفن، أو أن طيف الموت قال له “اُرسم وانظم، إنك راحل إلى عالم كنت تتخيله أو تناضل لأجله في الأرض”.

12