طيران منخفض

لم تعد، عزيزي القارئ، قادراً على تجاهل أن رؤية العالم من الأرض باتت هي الحقيقة الوحيدة، وبعد أن أصبحت صور الدرونز “الطائرات المسيّرة” هي الأكثر براعة من حولنا، بات علينا أن نعيد النظر في كيفية الإبصار ذاتها ورؤية الأشياء بأبعادها التي تتعدّد يوماً بعد يوم.
في الماضي كان المسطّح هو السيّد، وجاء من قال إن هناك بعداً ثالثاً، ثم رابعاً، ثم خامساً، وسيأتي من يضيف المزيد، ورفضك لتلك المستجدات إصرار عبثيٌ على العيش في الأمس، لم ينفعك بقشر بصلة. فالأمس انتهى ولن يعود.
عدسة الدرونز قادرة على الرؤية والحركة معاً، وفي هذا درسٌ كبير، فالرؤية وحدها لا تجدي، بل الانتقال، والانتقال من جنس التطوّر الذي لا بدّ منه ولا مهرب، وفي القديم كانت الصورة الثابتة لا تتيح لك سوى أن تفكّر بطريقة واحدة، المرونة اليوم تتيح الإحاطة بالشيء والفكرة معاً.
الطريف أن الحضارة الغربية التي أنتجت الدرونز، هي ذاتها من يقول إنها “مشكلة تحوّم فوق رؤوسنا”. لماذا هي مشكلة؟ لأن الفكرة بالطبع ستحسّن الرؤية وتكشف النفاق الاجتماعي الذي يضرب بقوة في المجتمعات البشرية كلها لا في الشرق وحده، فالغرب أيضاً لديه مواقعه المتصدرة في هذا المجال. كما أن هناك معضلة أخرى، تصل بهذه الماكينات الملهمة، حسب ما يقول تود بروبرت، نائب رئيس شركة “ريثيون” المتخصصة في مجالات الفضاء والاستخبارات والقيادة والتحكم، ويضيف هذا الخبير أن التعامل مع طائرة درون يتطلب من وجهة نظر تقنية التحرك بسرعة عالية، وهي عملية تتدخل فيها البيئة والظروف المحيطة بشكل كبير. وهو أمر بالغ التعقيد؛ حين تتحول المهمة إلى ما وراء التصوير، كالهجوم المضاد بالليزر، وموجات الراديو وغيرها. القصة ليست في ما يمكنك أن تراه، بل في تحكّمك بقدراتك أيضاً، فقد ترى أكثر من اللازم، وقد ترى أقل، وربما اعتديت على الآخرين في محاولتك تلك.
المسؤولية حيال القدرات تكاد تكون بمرتبة مُلازمة لتطور تلك القدرات، وقديماً كانوا يقولون لنا إن بعض الرياضات قد تحوّل الإنسان إلى سلاح قاتل متنقل، فإن لم يراع ذلك سيتسبّب بإيذاء الآخرين حتماً، والقضاء لن يرحمه، لأنه يدرك أنه أصبح أقوى من الإنسان الطبيعي.
لذلك فإن النظر في عمق الأشياء والظواهر أمانة، حتى لو كانت تلك الأمور بسيطة، وهو اطّلاع أتاحه لك التقدّم الإنساني، فلا تسئ استعماله، وإذا قدّر الله لك قسطاً من الذكاء فكن رحيماً بالبشر، لأنك إن فعلت العكس ففي تلك الحالة سيكون غباؤك نعمة علينا جميعاً.