طموح تملّك التونسيين للمنازل يصطدم بجدار من التحديات

تجمع أوساط اقتصادية على أن تونس تحتاج إلى بلورة حلول عملية فعّالة تتصدى للعراقيل الجاثمة أمام الناس لامتلاك مساكن بات الحصول عليها مستحيلا، لتدهور قدراتهم الشرائية، في ظل الأسعار الخيالية المتعلقة بشراء الأراضي أو مواد البناء.
تونس - تختزل مشكلة السكن في تونس أحد وجوه تقصير الدولة في إدارة الأزمات المتراكمة بعدما زاد من وطأتها التضخم وصعوبة التمويل، حيث أصبحت من القضايا الشائكة، التي يعاني منها المواطنون بسبب غلاء أسعار العقارات.
وبالتوازي مع تراجع القدرة الشرائية أضحى الحصول على مسكن سواء من خلال البناء أو الشراء صعبا، ما حتم على الكثيرين عدم التفكير في الأمر والاقتصار على الإيجار للتعايش مع الظروف الصعبة.
ورغم أن هذه القضية قديمة، لكن الوضع اختلف في السنوات الأخيرة وأصبح امتلاك منزل عائقا أمام الأسر وحتى الشباب المقدمين على الزواج، خصوصا في العاصمة تونس والمدن الكبرى، التي يلتجئ فيها غالبية السكان إلى استئجار البيوت لدواع مهنية أو دراسية.
وفشلت الحكومات المتعاقبة منذ 2011 في حل هذه الأزمة على اعتبار أن سوق العقارات ظل رهنا للمضاربات وارتفاع الفوائد، التي تفرضها البنوك على الراغبين في شراء أو بناء عقار، وهو ما يفسر ارتفاع أرباحها رغم الأزمة الاقتصادية في البلاد.
واعتبر رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي في تصريح لوسائل إعلام محلية مؤخرا أن التونسيين أصبحوا غير قادرين على شراء مسكن، نظرا لارتفاع أسعار العقارات ونسبة الفائدة التي توظفها البنوك على القروض.
وقال إن “برنامج المسكن الأول الذي وضعته الدولة يصعب تطبيقه نظرا للشروط التي تفرضها البنوك”، ولذا “تجب معالجة الفوائد الموظفة على قروض الاستهلاك والسكن”.
وأوضح أن الارتفاع الصاروخي لأسعار العقارات أصبح كابوسا لكل من يحلم بامتلاك مسكن، فنفقات الحياة مرتفعة للغاية.
وكانت تونس في السابق تعد من أفضل الدول التي تمتلك فيها الأسر منازل بنسبة 75 في المئة، لكنها اليوم تعاني من مشاكل في توفير المعروض، مما جعل الإيجارات تنمو بشكل لافت.
وسبق أن أكدت منصة “مبوب”، الموقع العقاري التونسي الذي يقيس مؤشر سوق الإيجار، تسجيل زيادة بنحو 10.8 في المئة في كلفة إيجار الشقق الفارغة خلال النصف الأول من العام الماضي مقارنة بالثلث الأول من عام 2021.
واتسم الطلب على الإيجارات بنمو مرتفع، إذ بلغ الطلب ستة أضعاف المعروض من الشقق الفارغة في النصف الأول من 2022.
ويبلغ سعر إيجار الشقة المكونة من ثلاث غرف قرابة ألفي دينار شهريا (645 دولارا)، ويصل إلى 871 دولارا في المناطق الراقية مثل البحيرة وقرطاج والمرسى، التي تحتل المراتب الأولى للإيجارات الأغلى في البلاد.
ويتراوح متوسط الإيجارات بالضاحيتين الغربية والجنوبية للعاصمة بين 284 و296 دولارا، بينما يفوق السعر بولايات (محافظات) الساحل التي تضم سوسة والمنستير والمهدية، فضلا عن ولاية نابل أكثر من 282 دولارا.
وكشفت المنصة أن أعلى متوسط إيجار في منطقة الساحل تم تسجيله بجهة القنطاوي في سوسة، وبلغ 420 دولارا.
وثمة شبه إجماع على أن غياب سياسة سكنية واضحة للدولة ساهم في رفع الأسعار إلى مستويات تجاوزت قدرة الإنفاق للطبقة المتوسطة.
ويقول عمار ضيّة، رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك، إن امتلاك مسكن “حلم صعب المنال” نظرا للارتفاع الكبير لأسعار العقارات والأراضي الصالحة للبناء، بالإضافة إلى اعتماد البنوك نسبة فائدة عالية.
وأكد أن الأمر لا يختلف حتى بالنسبة للموظفين والطبقة الوسطى باعتبار أن شروط الحصول على قروض بنكية مجحفة، بالإضافة إلى اشتراط نسبة تمويل ذاتي 20 في المئة، وهو أمر غير ممكن خاصة في ظل تدهور القدرة الشرائية.
وأضاف أن “هناك عزوفا عن شراء العقارات ما أفرز صعوبات لدى المطورين، وهو ما قد يؤثر سلبا على هذا القطاع برمته”.
وتقول أوساط عقارية إن الطبقة المتوسطة التي كانت تشكل نحو 60 في المئة من التونسيين هي الشريحة التي باتت الأكثر طلبا على الإيجارات، بعد أن فقدت القدرة على امتلاك مسكن بسبب الغلاء والمضاربة اللذين عرفهما قطاع التطوير.
وسجلت أسعار الشقق ارتفاعا بنسبة 1.3 في المئة، كما ارتفعت أسعار الأراضي السكنية بنسبة 9.6 في المئة، فيما زادت أسعار المنازل بنسبة 2.1 في المئة.
وارتفع المؤشر العام لأسعار العقارات خلال الربع الرابع من سنة 2021 بنسبة 6.2 في المئة، وفقا لأرقام معهد الإحصاء.
وبات الإقبال على الشقق الجاهزة التي يبنيها المطورون العقاريون سبيلا لامتلاك منزل، بسبب استحالة تمكّن الأسر خاصة متوسطة الدخل من شراء قطعة أرض والبدء في البناء.
ويرى العيد أولاد عبدالله، الأكاديمي المتخصّص في علم الاجتماع، أن ثمة غياب رؤية لتأسيس مدن جديدة، بعدما ظلت المدن الكبرى منذ الاستقلال مكانا لأكبر التجمعات السكنية.
وقال لـ”العرب” إن “العاصمة تجمع سكني كبير لأنها تجمع كل المقرات والإدارات والمؤسسات الكبرى، وهذا ما جعل امتلاك منزل أو إيجاره باهظا جدا، كما يوجد طلب وارتفاع مشط في الأسعار”.

وضرب مثلا لمدينة أريانة القريبة من العاصمة التي كان فيها الإيجار لا يتجاوز 192 دولارا منذ فترة، ولكن الآن بات يفوق نحو 480 دولارا.
وأكد أولاد عبدالله أن هناك مشكلة أجور بالأساس، والرواتب راكدة منذ زمن طويل، ومن تقاليد التونسي أنه يريد امتلاك منزل، لكن هناك من يرضى بالإيجار في ظل وجود مشكلة تتعلق بالبنية التحتية والتخطيط العمراني.
وأوضح أن مدينة سُكّرة شمال العاصمة على سبيل المثال، تعد منطقة صغيرة وتضم قرابة 50 ألف ساكن، وهذا ما يتطلب مراجعة قانون الإيجار وإعادة النظر في طرق التهيئة العمرانية.
ولفت إلى أن الأسعار تحددها الحاجة، والطلب بات أكثر من العرض لأسباب متعددة تتعلق بقانون الإيجار والخدمات، كما أن هناك اختيارات وحسابات من الأسر التي تبحث عن التنشئة الاجتماعية السليمة لأبنائها، فضلا عن الاستقرار النفسي والاجتماعي.
ولجأت بعض الأسر إلى زيادة طابق أو طابقين أو تخصيص فضاءات صغيرة داخل المنزل، وتأجيرها، بهدف مواجهة النفقات اليومية المتزايدة.
وانتشرت هذه الظاهرة بشكل لافت، وتحولت إلى استثمار مربح بخاصة إثر انتهاء القرض البنكي المخصص لتوسعة المنزل والدخول في الربح الصافي.

ويبدو المهندس المعماري عصام المنصوري مقتنعا بأن هناك تراكما لسياسات خاطئة من قبل الدولة. وقال “لقد تم إنشاء مؤسسات وطنية لتوفير المساكن للشعب بأسعار معقولة في فترة ما، لكن بدأت تلك المؤسسات تتخلى على دورها فيما بعد”.
وأضاف لـ”العرب” أن “القدرة الشرائية للتونسي أصبحت لا تسمح بشراء أرض للبناء ولا كراء منزل، وكان الكثير سابقا يعتمد على الأراضي الموروثة، لكنها اليوم أصبحت نادرة جدا”.
وأكد أن أسعار الأراضي المقسمة مرتفعة وتتراوح بين 112 و128 دولارا للمتر المربع الواحد، وحتى عند اختيار أرض غير مقسمة يصطدم التونسيون بصعوبات إدارية.
وأوضح المنصوري أن هناك تصوّرا جديدا لمجموعة من الأفراد، يتمثل في استئجارهم شقة ذات 4 أو 5 غرف ويتشاركون في كل النفقات.
وأشار إلى أن أسعار الإيجارات ارتفعت بسبب توافد الليبيين بعد 2011، وتراجع القدرة الشرائية للتونسيين، وهذا ما يستدعي ضرورة تدخل الدولة والبنوك والتقليص في نسبة الفائدة.