ضياء مراد في الإمارات ساردا غرائبية الحياة الوجدانية لبيروت

ترى عين الإنسان في التفجيرات والدمار مشاهد مأساوية لا تمحى من الذاكرة بسهولة، لكن عين الفنان المتشبع بفنون وثقافات متنوعة يرى الجمال في كل شيء، ويطوع موهبته لتحويل المآسي إلى مشاهد شديدة الحساسية تفتح بصيرة المتلقي على حجم الجمال الذي بنته يداه.
افتتحت صالة “زوايا” الفلسطينية الكائنة في مدينة دبي الإماراتية معرضا فنيا مميزا للمصور والفنان اللبناني ضياء مراد مطلع شهر مارس الحالي، وقدم فيه مراد مجموعة كبيرة من الأعمال تفتح البصر على العديد من الأفكار المتداخلة حول نجاتها بالمعنى المطلق للكلمة وحمل المعرض عنوان “إعادة تأطير بيروت”.
على مسافة بعيدة من التصوير الفوتوغرافي الصحافي الذي له أهميته الكبرى في مجالات محددة، يقدم الفنان والمصور الفوتوغرافي الشاب ضياء مراد المولود في 1991 مجموعة صور كبيرة رصد فيها مراحل قليلة من حياة بيروت، ولكنها كفيلة بأن تسرد جوهر قصتها أمام أهلها وأمام الآخرين.
وقبل الدخول إلى معرضه هذا يجب القول إنه حينما يُذكر اسم المصور مراد أول ما يخطر على بال الكثيرين منا صوره الغنية بصريا التي تشي بنظرة هندسية شاملة توثق علاقة دواخل المنازل بما يحيط بها لاسيما بعد تفجير بيروت.

القمح عندما يصور منثورا بهذا الشكل وبسبب حادث مروع يحمل معنى الهدر والتضحية العبثية
ولا يجب ذكر هذا من باب الضرورة التقليدية التي تلازم كل صورة فوتوغرافية ناجحة، إذ أن الزاوية التي اختار فيها المصور التقاط معظم صوره تؤكد بأنه كان عليه الاختيار من عشرات الزوايا، الزاوية “الأجمل” والأكثر تعبيرية التي يمكنه من خلالها انتشال المشهد من الضمور الطبيعي للذاكرة الجماعية كما الخاصة وبهتان ما تعنيه حقا تلك الصور. يكفي براعته تلك لكي يقدّر عمله الفني ويكرسه مصورا ناجحا جدا لعبت ثقافته دورا كبيرا في نجاحها أكثر من درايته بتقنية التصوير.
وربما من الجرأة القول إن تلك الصور التي توثق الدمار الهائل الذي طال قلب المدينة حملت بعدا جماليا مأساويا لا يتعلق فقط بما صنعه تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس من سنة 2020 بل بحقيقة بيروت المجبولة بالفرح والألم حدّ الإعياء وذلك في أحيان كثيرة.
ونذكر هنا على سبيل المثال نظرة النباتات التي لم يزحزحها الانفجار وزرقة السماء الصافية التي امتصت الفعل الإنساني المجرم، ودفء الضوء الذي عمّ في أرجاء الدمار حدّ الشعور برائحة الخشب العتيق والستائر العالية التي رغم تمزقها بدت وكأنها تتنفس الصعداء.
اليوم، يشتمل المعرض على نوعين من الصور إلى جانب تلك الذي ذكرناها آنفا. المجموعة الثانية هي التي خفّت وتيرة انفعالاته تجاهها وخفت إيقاعها البصري الذي تألف سابقا من غزارة العناصر التي شاهدناها بالصور الأولى والمتعلقة بآثار تفجير المرفأ “الطازجة” بعد أن همد الدخان واستقر الدمار بعد تطاير أشلاء المباني. ولكن هذه الصور لم تخسر أيّ شيء من جماليتها وأظهر فيها المصور جمال الأبنية وجانبا من حدائقها التي تحدثت عن حضور الإنسان من خلال طاولة “سليمة” وكراسٍ تحيط بها.
وبدت في هذه الصور عملية توثيق شديد الهدوء لمبان تراثية ما قبل تدميرها وربما أيضا بعد إعادة ترميمها (وإن كانت قليلة نسبة إلى ما بقي مدمرا منها). صور في كلتا الحالتين قلّ فيها اعتماد ضياء مراد زوايا تصوير مختلفة لتكتفي بمشاهد غير جانبية وخارجية وشبه مسطحة للشبابيك والألوان الزاهية التي تلونت بها هي والجدران.
أما المجموعة الثالثة فهي الأكثر فنية من بين المجموعات الثلاث. ويمكن اعتبارها منتمية إلى الفن المفهومي. أولا بسبب التناقض الغرائبي بين ما هو حقيقي، وهو “حقيقي” أيضا، ولكنه أصبح غرائبيا لأنه رافق الحقيقي البحت. ونقصد هنا تلك الصور التي ظهر فيها مبنى أهرامات القمح، وبالأخص الجانب الذي لم يتدمر منه. وقد أطلق المصور على هذه المجموعة عنوان ” تجربة إهراءات القمح” وأعطى لصورة من هذه المجموعة عنوان “صحراء بيروت”. في تلك الصور التي لكلّ منها أجواؤها الغرائبية الخاصة، بدا الجدار الشاهق غير المتهدم لإهراءات القمح كأنه جدار عازل يحمي الانهيار التام، أما إيقاعه الهندسي المتموج بعنف من ارتجاج معنى الحماية والصمود غير المجدي أمام عدو هو المُنتظر منه أن يكون الحامي والرادع.
والأفظع من ذلك أن مشهد القمح المنثور على الأرض بصبغته اللونية غير الاعتيادية بسبب المواد المتفجرة المتسللة إلى مسامه بدا وكأنه صحراء بكل ما للكلمة من معنى إن كان من حيث هول المساحة، أو لونها أو الكثبان التي تشكلت من كمية القمح المنثور.
وتتأتى الغرابة في تلك الصور ة من سببين، الأول لأنها تحمل عناصر أخرى كوجود شخص من الدفاع المدني يقف إلى جانبها وهذا أمر غير اعتيادي. والسبب الثاني أن القمح بحد ذاته عندما يصور منثورا بهذا الشكل وبسبب حادث مروع كهذا يحمل هول معنى الهدر والتضحية العبثية.
أضف إلى ذلك أن تلك الصور خاصة وغيرها من الصور التي توثق “تصحّر” بيروت بالمعنى المجازي تحيلنا إلى كل الأعمال الفنية والصور الفوتوغرافية التي لا تحصى ولا تعد والتي لم تتوقف عن الظهور إلى الآن.
وهنا نجد ذاتنا نتساءل أمامها: هل هي ضخامة الفجيعة التي أنجبت كل تلك الأعمال فقط أم لأن الجريمة تمّ التعتيم عليها من قبل السلطة حتى بعد مرور سنتين؟
هذه “الصحراء” البيروتية ليس فيها واحات رغيدة ولا طيور تغط في مائها المنعش ولا نخيل وارف يظلل كائناتها الحية بل هي شواهد فظيعة تفقر العيون بصمت، وهي مثال أفظع على تلك الفكرة المترسخة عند كل الشعوب ومفادها أن كل الأماني غير متحققة أو الأفعال غير مكتملة أو الأسرار غير مكشوفة، لأنها غير سرية بطبيعتها ولكنها كذلك لأن كشفها سيودي حتما برأس الأكثرية الساحقة من أهل السلطة السابقين والحاليين، تظل تؤرق مضاجع الضحايا المباشرين وغير المباشرين وتلحّ على الظهور مرات ومرات في أعمال فنية بليغة حتى أجل مُسمّى.
ولا تعيش واحات في صور ضياء مراد، بل “تعيش” هامة شجرة واحدة ومتفحمة ورقيقة الفروع شجرة” الجاكاراندا” المعمرة التي تنتشر في مناطق كثيرة في بيروت وأجبرت، عبر العصور غير محبي اللون البنفسجي إلى الرضوخ لسحره وروعته. بلغ عمر هذه الشجرة التي صورها “أسطوريا” ضياء مراد أكثر من 100 مرة قبل أن تلاقي حتفها بما ترمز إليه من عراقة المدينة بأيامها الجميلة في حديقة عائلة داغر التاريخية، عند انفجار المرفأ.
قد يكون الفنان والمصور أراد تقديم مجموعة صور كبيرة في معرضه كنوع من الاحتفال بتاريخ بيروت وذلك خاصة عبر المجموعة الثانية من الصور وقد نجح في ذلك. غير أن صوره تبدلت بشكل جذري بعد حدث انفجار بيروت، حتى تلك الصور “الاحتفالية” أصبحنا نراها اليوم وربما أصبح هو أيضا يراها كنوع من رثاء مسبق لجمال مهدد بموت متنوع الاشكال.
باختصار، ضياء مراد ساهم ولا يزال إلى اليوم بدعم عراقة بيروت وإعادة ترميمها، وإن كان، وهو لا يملك أوهاما حيال ذلك، في مواجهة جحافل كاملة من المجرمين المتملقين والسياسيين الفاسدين.

