ضرورات أمنية متزايدة لتفكيك عمالقة التكنولوجيا

دعوات تقسيم الشركات تستند إلى تصاعد تهديدها للأمن القومي الأميركي.
الأحد 2020/02/23
الشركات التي يطلق عليها اختصارا GAFA هي الأكثر تعرضا لهجمات ومطالب التقسيم

تواجه أكبر شركات التكنولوجيا الأميركية ضغوطا متزايدة بشأن خطورة نفوذها الهائل وهيمنتها الكبيرة، التي تتضح في تجاوز القيمة السوقية لأربع منها حاجز تريليون دولار. وتحولت الضغوط إلى مطالبات من أعلى سلطات اتخاذ القرار بتفكيك تلك الشركات.

لكن المسؤولين التنفيذيين في تلك الشركات يلجأون إلى إجابة مثيرة للحس الوطني، وهي أن تفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى سيفتح الطريق أمام الهيمنة الصينية ويقوض الأمن القومي الأميركي.

وفي حقبة جديدة من التنافس بين القوى العظمى، يقول المدافعون عن تلك الشركات إن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تقوض قدرة عمالقة التكنولوجيا، مثل أمازون وفيسبوك وغوغل، على منافسة شركات الدول الأخرى.

ويضيف هؤلاء أن القيود التي سيتم فرضها عليها، سوف تعطي ببساطة دعما للشركات الصينية، وتقوض فرص الولايات المتحدة في حسم الحروب الباردة والساخنة على جبهات التفوق التكنولوجي والذكاء الاصطناعي.

غانيش سيتارامان: على صانعي السياسة العمل لتقويض شركات التكنولوجيا الكبرى ورفض استحواذها على المنافسين الصغار
غانيش سيتارامان: على صانعي السياسة العمل لتقويض شركات التكنولوجيا الكبرى ورفض استحواذها على المنافسين الصغار

ويتركز الجدل على 4 شركات هي غوغل وأبل وفيسبوك وأمازون بسبب نفوذها واحتكارها وتهديدها للمنافسة العادلة ويطلق عليها اختصارا GAFA استنادا إلى الحروف الأولى لتلك الشركات.

ويقول غانيش سيتارامان في تقرير في مجلة فورن أفيرز الأميركية إنه ليس من المفاجئ أن تتبنى إدارات عمالقة التكنولوجيا تلك الحجج، لكن الموقف يكتسب قوة خارج وادي السيليكون، وحتى بين سياسيين من الحزب الديمقراطي، عبروا عن قلقهم من نتائج تقليص دور تلك الشركات.

في المقابل لم يظهر أي ضعف على معسكر المطالبين بتفكيكها، الذي يرى أن هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى داخل الولايات المتحدة تعرض الشركات الأخرى لضغوط شديدة وأن قبضتها الحديدية على قطاع التكنولوجيا تعني انخفاض المنافسة وتقليل الابتكار.

ويؤكد هؤلاء أن ذلك يهدد بترك الولايات المتحدة في وضع أسوأ في سباق التنافس مع الأجانب. ويقولون إن تقليص حجم عمالقة التكنولوجيا ضروري لحماية الحريات الديمقراطية ويعزز القدرة على المنافسة مع القوى العظمى الجديدة.

سباق واشنطن وبكين

يبدو أن المنافسة مع الصين ستحدد استراتيجيات الأمن القومي الأميركي لعقود قادمة، وتحتاج إلى تحليل عميق للدور الذي ستلعبه التكنولوجيا في السباق الدولي على جبهات التكنولوجيا.

فالقول بأن شركات مثل أمازون وأبل وغوغل ومايكروسوفت تساعد في مواجهة التفوق التكنولوجي لمجرد أنها شركات أميركية، ينطوي على مغالطات فاضحة لأنها تملك عمليات واسعة النطاق في الصين ولا تميز بين البلدين في سعيها لتحقيق الأرباح.

فشركة غوغل تخطط لإنشاء مركز أبحاث ذكاء اصطناعي في بكين وتستكشف إمكانية عقد شراكة مع شركة الإنترنت الصينية العملاقة تينسنت. وتعمل مايكروسوفت على توسيع مراكز البيانات الخاصة بها في الصين، أنشأت مؤخرا نظام تشغيل كامل للحكومة الصينية هو “ويندوز 10 تشاينا غوفرنمنت”.

أما خدمة أمازون السحابية فتحتل المرتبة الثانية في الصين بعد نظيرتها الصينية “علي بابا”، في حين تنتج أبل جميع أجهزتها تقريبا في الصين بعد تصميمها في وادي السيليكون الأميركي.

ولن تتردد فيسبوك في التوسع في الصين بعد أن حاولت مرارا وتكرارا الوصول إلى السوق الصينية، لكن تم حظرها من قبل المسؤولين الحكوميين الصينيين.

وقد يبدو تقديم خدمة فيسبوك في الصين غير ضار. لكن الخبراء والمسؤولين الأميركيين وجمعيات الأعمال يؤكدون أن أي شركة تكنولوجيا أميركية تعمل في الصين يمكن أن تدعم الدولة الصينية وتوسع من تسلط الحكومة الرقمي.

ولا يمكن لأي شركة أميركية أو غير أميركية العمل في الصين دون أن تتفاعل بشكل إلزامي مع الشركات، التي تديرها أو تمتلكها الحكومة الصينية ولو بشكل جزئي.

وبسبب الترابط الشديد بين السوق والدولة الصينية، فمن المرجح أن تمرر الشركات الصينية العاملة مع شركات أجنبية الأسرار التشغيلية والتكنولوجية إلى الحكومة الصينية، الأمر الذي يعزز نفوذ بكين في جميع أنحاء العالم، إضافة إلى ما هو معروف عن شبكة المراقبة الداخلية لجميع سكان البلاد.

ويبدو ذلك جليا في الذكاء الاصطناعي، حيث تكون للابتكارات التجارية استخدامات عسكرية أيضا. ويعني ذلك أن الابتكارات التكنولوجية للشركات الأجنبية العاملة في الصين ستجد طريقها إلى الجيش والحكومة الصينية.

ويلخص أشتون كارتر، وزير الدفاع الأميركي السابق الأمر بالقول “إذا كنت تعمل في الصين، فأنت لا تعرف ما إذا كنت تعمل في مشروع للجيش أم لا”.

الخضوع لضغوط الصين

Thumbnail

يمكن للاندماج في السوق الصينية أن يعرض الشركات التكنولوجية الأميركية العملاقة لضغوط شديدة وقد يصل الأمر إلى استخدامها في إلحاق الضرر بالمصالح الأميركية.

ويطلق الخبراء على تكتيك تحويل الترابط الاقتصادي إلى نفوذ سياسي، عدة مصطلحات، مثل “الاقتصاد الجيوسياسي” و”التشابك العكسي” و”الترابط المسلح”.

وللحفاظ على فرص السوق الصينية الهائلة، تقوم الشركات بتعديل سلوكها حتى خارج حدود الصين، من أجل إرضاء الحكومة الصينية أو تفادي إغضابها.

ووصل الأمر باستوديوهات هوليوود إلى إنتاج مشاهد بديلة لضمان التوزيع في الصين، مثل اختيار تفجير تاج محل بدلا من سور الصين العظيم في فيلم “بكسل” واستبدال الصين بكوريا الشمالية كخصم رئيسي في فيلم “ريد داون” في عام 2012.

وقبل عام، نشرت شركة مرسيدس اقتباسا من الدالاي لاما على إنستغرام، لكنها سارعت إلى حذفه بل قالت إن المنشور يحتوي على “رسالة خاطئة وأضر بمشاعر الناس” في الصين، بعد أن وصفت صحيفة الشعب الصينية الحكومية شركة مرسيدس بأنها “عدو للشعب”.

ويؤكد ذلك أن الشركات الغربية تتصرف وفقا لمصالحها، ولا تبالي بأي مبادئ ديمقراطية الأمن القومي الأميركي. ويقول المطالبون بتفكيك الشركات العملاقة إن الخطر يتضاعف حين تحاول تلك الشركات التأثير على سياسة الحكومة الأميركية لحماية مصالحها في الصين.

وتملك وزارة التجارة الأميركية، على سبيل المثال، سلطة وضع قيود التصدير على بعض التقنيات الحساسة، بما فيها الذكاء الاصطناعي، وهي قيود مهمة من وجهة نظر الأمن القومي، حتى لو كانت تؤثر سلبا على بعض الشركات.

لكن الأيديولوجيا السائدة بين مدراء الشركات ومحاميهم وجماعات الضغط التي تدعمهم، لا تدخر جهدا لإقناع الحكومة الأميركية بتخفيف القيود عن الشركات لحماية أرباحها حتى لو تعارض ذلك مع المصالح الوطنية الأميركية.

ويقول محللون إن جميع الشركات الأميركية في الصين تقريبا تتعرض لضغوط بكين بدرجة أو بأخرى. لكن تركز قطاع التكنولوجيا في قبضة الشركات الكبرى، يجعل تلك الشركات وبالتالي الولايات المتحدة، أكثر عرضة لضغط بكين.

ويرى سيتارامان أن حماية الأمن القومي الأميركي وتقليل خطر الاختراق الصيني له يكمنان في تشديد مكافحة الاحتكار وتفكيك وتجزئة الشركات العملاقة.

ويضيف أن تزايد عدد اللاعبين في قطاع التكنولوجيا وامتلاك كل منها لسلاسل إمدادات مختلفة، يجعلها أكثر قدرة على الإفلات من قبضة الضغوط الصينية، وقد يبني بعضها منتجاته بالكامل في الولايات المتحدة.

الضغط على واشنطن

مارك زوكربيرغ الأكثرمثولا في قفص الاتهام بسبب نفوذ فيسبوك الهائل وصفقات استحواذها على المنافسين مثل واتساب وإنستغرام
مارك زوكربيرغ الأكثرمثولا في قفص الاتهام بسبب نفوذ فيسبوك الهائل وصفقات استحواذها على المنافسين مثل واتساب وإنستغرام

جدل المطالبة بتفكيك عمالقة التكنولوجيا لا يزال مجرد مقترحات، لأن المهمة شاقة بسبب نفوذها الكبير واعتماد الحكومة على خدماتها بشكل متزايد، حيث تقدم شركات مثل أمازون ومايكروسوفت الخدمات السحابية لوكالات الدفاع والاستخبارات الأميركية. وهي أيضا جزء من القاعدة الصناعية الدفاعية التي لا غنى عنها بالنسبة للمعدات العسكرية الأميركية.

ولذلك فإن تشابك مصالحها بين واشنطن وبكين يفاقم لعنة الرأسمالية الاحتكارية، حين تؤثر على قطاع الدفاع، إضافة إلى أنها تؤدي لارتفاع التكاليف وانخفاض الجودة وتقليل الابتكار وحتى الفساد والاحتيال.

ويرى سيتارامان أن رؤية التحدي المستقبلي تتطلب الأخذ في الاعتبار الحالة الراهنة لصناعة الأسلحة الأميركية، والتي تعتبر غير تنافسية بشكل فاضح. وقد وجد مكتب محاسبة الحكومة العام الماضي أن 67 في المئة من 183 عقدا لمنظومات الأسلحة الرئيسية لم تدخل في عملية مناقصة تنافسية.

وذهب ما يقرب من نصف العقود إلى واحدة من خمس شركات، في دليل قوي على هيمنة مجموعة من الشركات على الصناعة.

وفي عام 2018، أصدرت وزارة الدفاع تقريرا عن سلسلة الإمداد العسكرية، تضمن العديد من العناصر التي أنتجت فقط شركة أو شركتان محليتان الأجزاء الأساسية فيها. بل إن التقرير وجد أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على بناء غواصات وفق جدول زمني سريع بسبب وجود موردين محتكرين للصناعة وتناقص عنصر المنافسة.

ويقول فرانك كيندال، الرئيس السابق لمشتريات البنتاغون، إن مقاولي الدفاع الكبار “لا يترددون في استخدام تلك الهيمنة الاحتكارية لصالحهم”.

ويرى الباحثان مات ستولر ولوكاس كونسيه أن احتكار المتعاقدين يهدد الأمن القومي، مثل مواصلة شركة "أل 3 تكنولوجيز" احتكار توريد بعض المنتجات للبنتاغون رغم اعترافها في تسوية دعوى احتيال عام 2015 بتزييف مشاهد لأسلحة معيبة للقوات الأميركية.

الحل في تفكيك العمالقة

مايكل تشيرتوف: شركات التكنولوجيا العملاقة تكرس "ثقافة تكنولوجية أحادية" تفتقر إلى الابتكار ومعرّضة للهجوم الخارجي
مايكل تشيرتوف: شركات التكنولوجيا العملاقة تكرس "ثقافة تكنولوجية أحادية" تفتقر إلى الابتكار ومعرّضة للهجوم الخارجي

نظرا لأن التكنولوجيا أصبحت ضرورية لضمان مستقبل الأمن القومي، فمن المرجح أن تؤدي هيمنة عمالقة التكنولوجيا إلى مشكلات مماثلة، وسيجد البنتاغون نفسه معتمدا على هذه الشركات، تماما كما هو الحال مع متعاقدي الدفاع الكبار.

وكان مايكل تشيرتوف، وزير الأمن الداخلي السابق قد حذر من أن شركات التكنولوجيا العملاقة تكرس “ثقافة تكنولوجية أحادية” تفتقر إلى الابتكار ومعرّضة للهجوم الخارجي.

وسيؤدي ذلك إلى ارتفاع التكاليف التي يتحملها دافعو الضرائب، سواء بسبب ارتفاع الأسعار أو الاحتيال والفساد، وسيصبح جزء كبير من أموالهم أرباحا احتكارية لمديري التكنولوجيا والمساهمين.

من الطبيعي أن تجابه شركات التكنولوجيا بشراسة أي محاولة لتفكيكها وتهديد الأرباح الكثيرة التي تزيد قوتها ونفوذها. وليس من المستغرب أيضا أنها تحاول ترويض استراتيجيات الأمن القومي لخدمة مصالحها.

لكن موقفها يتآكل ويتراجع ويصعب الدفاع عنه حتى من باب المنافسة مع الصين. فشركات التكنولوجيا العملاقة لا تتنافس مع الصين بل تتناغم وتندمج معها، بل إنها تهدن ضغوط بكين لحماية مصالحها هناك أكثر مما تراعي واشنطن.

أما بالنسبة للمصالح الأميركية فإن حماية المنافسة والاستثمار العام في مجال البحث والتطوير من هيمنة العمالقة، ستوفر مجالا أوسع للتقدم والابتكار.

ويرى سيتارامان أن على صانعي السياسة اتخاذ إجراءات لتقويض شركات التكنولوجيا الكبرى من خلال رفض عمليات استحواذها على المنافسين الصغار، مثل شراء فيسبوك لتطبيقي واتساب وإنستغرام وسبعين شركة أخرى.

ويضيف أن عليهم أيضا مطالبة منصات مثل أمازون بالفصل بين التكنولوجيا وبين الأعمال التي يقدمونها، وفرض اعتماد لوائح صارمة لحماية الخصوصية.

ويؤكد أن أفضل طريقة للحفاظ على القدرة التنافسية والابتكارية في هذه الحقبة من منافسة القوى العظمى، تكمن في حماية المنافسة وتطبيق اللوائح الذكية وتعزيز الإنفاق العام على البحث والتطوير، ولذلك فإن تفكيك شركات التكنولوجيا العملاقة لن يهدد الأمن القومي؛ بل يدعمه.

17