صوتٌ لكل أسرة

جرت انتخابات فلسطينية بديلة بعيداً عن السياسة وعن السلطة فشغلت الناس، وجاءت كاشفة لقدرات المرشحين ولجدارتهم في اجتياز الاختبار بنجاح، على الرغم من كل أنواع المصاعب والآلام. وهذه الانتخابات، بطبيعتها، تحدد الدرجات المستحقة بشكل أدق من تحديد عدد الأصوات التي يحصل عليها المتسابقون في الانتخابات السياسية. ثم إن المرشحين والمرشحات ليسوا أفراداً، وإنما أسر من المجتمع تتداعى للعملية الانتخابية وينوب عنها أبناؤها في الإجابة عن الأسئلة ثم تنتظر النتائج!
إنها امتحانات إتمام الدراسة الثانوية التي يسمونها “التوجيهي”. فهي محض اختبار للعقول، ولنمط حياة الأسرة، وعملية تسبر أغوار حياة الناس، وتعاين قدرتها على حُسن استخدام مواردها البشرية، وتقيس قدرتها على احتمال شظف العيش والصبر على المشقة، ومقاومة المظالم أو – من جهة أخرى بالنسبة إلى الميسورين – قدرتها على الاستفادة من النعم بإحراز التفوق!
في انتخابات “التوجيهية” لا منافسات صاخبة، ولا حملات دعائية، ولا مكائد، ولا سيارات ولا ميكروفونات ولا تمويل. والعملية نفسها غير قابلة للإلغاء أو الإرجاء، إذ تُجرى في موعدها، كالانتخابات الأميركية. أما عند إظهار النتائج، فهي تتميز عن الأخيرة وغيرها بكونها بلا طعون وبلا شُبهات تزوير.
في انتخابات توجيهي غزة، كانت الغالبية العظمى من المتنافسين من طبقة الفقراء والمألومين، والمسدودة آفاق الدنيا أمامهم. وهذه هي الطبقة السائدة التي تتراوح أوضاعها بعد صعوبة الحصول على مقومات الحياة اليومية، ومن يتدبرون خبزهم. وهناك شرائح كثيرة في الضفة تشبههم ومعطوفة عليهم، وتعاني المصاعب نفسها.
جاءت النتائج بفوز باهر للأسر الفقيرة التي اعتنت بأبنائها وفتياتها، وراهنت على نوع من الاستثمار الغامض والصعب لتأمين مستقبل مشرق لهم. فبعد الفوز الباهر، وكثير منه بنسب لا تفصل بينها وبين المئة سوى كُسور عشرية، أو تنقص عن المئة درجة أو درجتين؛ تصبح الأسرة في مواجهة مصاعب الدراسة الجامعية وأكلافها. فالجامعات ربحية، باهظة الكلفة، يحميها نظام حكم لا يعرف الرأفة ولا البُعد الاجتماعي للسياسة، ويجعل القهر التعليمي معطوفاً على القهر الأمني، إذ يحتكر التصرف في المنح الدراسية التي تقدمها بعض البلدان للنابغين من أبناء الفقراء. فعندما يتلقاها العنوان الرسمي الفاسد يوزعها على أبناء الميسورين الموالين، وهم من متوسطي أو ضئيلي التحصيل، وكثيراً ما تضيع هذه المنح بسبب فشل من يحصلون عليها. وكان لافتاً في نتائج انتخابات “التوجيهي” أن أبناء الناس الأكثر فقراً وضنكاً في الحياة حصلوا على أعلى المعدلات. لكن السؤال بعدئذٍ: أين يتلقى الناجح الألمعي دراسته الجامعية بينما لا تملك أسرته أكلافها؟ لقد استفادت الجامعات القهرية باهظة الكلفة من وباء كورونا عندما اعتمدت نظام التعليم عن بعد عبر خطوط عنكبوتية. وهذا خليط من جامعات حزبية وأخرى استثمارية رأت وجه الفائدة في الوباء، بقطع الخط عن الطالب الذي عجزت أسرته عن تسديد ما تبقى عليها من الرسوم. وعندما تتلقى الأسرة المساعدة من قريب أو صديق لفتح خط المحاضرات يكون الضرر قد وقع، بعد مرور محاضرات سابقة. فالمنهجية القهرية لا تكترث للضرر. ومن بين محاولات النجاة والظفر بتعليم لا ينقطع سياقه أو لا يُعجز الأسرة؛ يلجأ الناس الى الجامعات في الخارج، وهذه أقل كلفة وأيسر، وأكثر صبراً على سداد الرسوم. بسبب هذا الضنك يظل الفوز في “التوجيهي” ناقصاً لا يتبعه فوز في اختبار التغيير السياسي عبر انتخابات عامة. وما يزال انسداد الأفق أمام التغيير المرتجى يضرب بقوة في النسق الاجتماعي!