صفائح الزينكو المعدنية تحتدم في تجهيزات عبدالرحمن قطناني

المرايا وسّعت حدود المكان وجعلته أقل مأساوية وأضافت إليه اضطرابا بصريا جعله قابلا للتحوّل إلى نقيضه تماما.
السبت 2020/10/31
موجة عارمة ترمز إلى الاحتلال والمنفى القسري

في آخر معرض فني له، قدّم الفنان الفلسطيني متعدد الوسائط عبدالرحمن قطناني تجهيزا فنيا في صالة “صالح بركات” البيروتية تحت عنوان “عصف ذهني”. وهو عمل مربك يروي بعضا من سنوات اللجوء التي عاشها الفنان ليمنحها تجهيزه الفني الثائر.

بيروت- “عصف ذهني” تجهيز فني للفنان الفلسطيني الشاب عبدالرحمن قطناني احتكر فضاء صالة “صالح بركات” البيروتية الرحب لعدة أسابيع، وهي التي أطلقت في الأسبوع الأخير من المعرض كتابا عن الفنان شمل مقالات بالفرنسية والإنجليزية كتبها كل من: بول أردين، ميرنا عياد، نتاشا غاسباريان وباربرا بولا، إضافة إلى مقابلة مع نيكولاس إتشنغوكيا.

شمل هذا المحتوى تجربة قطناني، من البدايات مع المعدن المموّج (الزينكو) والأسلاك الشائكة وصولا إلى تجهيزاته في الوقت الحاضر. وكانت الصالة الفنية قد قدّمت الفنان في هذه الكلمات “ولد وعاش عبدالرحمن قطناني حياته لاجئا في مخيم صبرا وشاتيلا في لبنان. ظهرت موهبته الفنية في سنوات طفولته المبكرة عندما بدأ الرسم متخذا من الحقائق المؤلمة للحياة اليومية للاجئين في المخيم حجر أساس لأعماله”.

وظّف قطناني في مجمل عمله الفني، السابق والحاضر، موادا متفرقة استقدمها من بيئة المخيم واهبا إياها “سردا” تعبيريا فنيا. من تلك المواد المُستخدمة: ألواح الصفيح والكرتون، والخِرَق من الملابس البالية وسدادات قناني المشروبات الغازية والأواني القديمة.

شكّل التجهيز الفني، بعد عدة أشهر على تقديمه، في وجدان كل من زاره حالة امتدت إلى ما بعد نهاية الحدث الفني الذي انطلق مع بداية الانتفاضة اللبنانية (افتتح المعرض آنذاك دون احتفال رسمي). حالة أرخت بظلها على مجمل الحوادث التي تلت، بداية بتضخّم مظاهر الفساد في لبنان وامتدادا إلى الأزمات السياسية والاجتماعية حتى انفجار 4 أغسطس الذي عصف بمدينة بيروت عصفا غير مسبوق حتى وصف بأنه انفجار نووي، وصولا إلى التحوّلات السياسية و”العصف الذهني” الذي طال، وبصيغ مختلفة البلد، من ذلك مفهوم العلاقات القادمة مع دولة إسرائيل على أرض فلسطين.

كما شكّل هذا التجهيز الفني السينوغرافي الذي يُحاكي مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لاسيما مخيم صبرا وشاتيلا “غير الإنساني” حيث ولد وعاش الفنان، بنيانا رمزيا قوامه وجدرانه صفائح الزينكو المعدنية وشمل بهندسته المواربة والخانقة اللبنانيين والفلسطينيين على السواء ليتعداهما اليوم وصولا إلى مصائر الشعوب العربية في بلدان مجاورة.

دهاليز عبدالرحمن قطناني القدرية عامرة بعابريها
دهاليز عبدالرحمن قطناني القدرية عامرة بعابريها

وفي هذا السياق بالتحديد نعود إلى ما ذكر الفنان في إحدى المقابلات الصحافية عن أهمية الزينكو في تاريخ مخيمات اللجوء، وخاصة في مخيم صبرا وشاتيلا، حيث ولد قطناني سنة واحدة بعد حصول المجزرة الشنيعة.

وضّح قائلا “والدي نجّار، وفي صغري كنت أساعده كثيرا في الزينكو وتركيبه على أسطح المنازل. أعرف لماذا كان حديد البراميل يلف الجدران من الخارج. فالبناء في المخيم ممنوع، ولهذا كان حجر الباطون الذي يحمي سكان المخيم من العوامل الطبيعية يختفي خلف حديد البرميل المُسطّح والمموّج”.

التجهيز الفني الضخم الذي قدّمه الفنان في صالة “صالح بركات” شبيه بدهليز ضيق يتعرّج ويلتفّ على ذاته إلى أن يفضي في نهاية المطاف إلى عمق صالة العرض، حيث مساحة أكثر رحابة أقام فيها الفنان “موجته” العارمة المصنوعة من الأسلاك الشائكة.

موجة من ثمانية أمتار عرضا وثلاثة طولا، لا يخفى على أحد أنها ترمز إلى الاحتلال والمنفى القسري وما نتج عنهما من مآس للشعب الفلسطيني بشكل خاص والشعوب العربية بشكل عام التي طالما اعتبرت فلسطين قضية تخصها أيضا.

وضمّت جدران الفنان “الزنكية” بورتريهات لشخصيات لعبت دورا كبيرا في القضية الفلسطينية منها بورتريهات لياسر عرفات، وأُمراء من منطقة الخليج العربي، شكّلها الفنان على طبقات براميل النفط الدائرية. كما ضمّت أعمال تركيب وتجميع لمواد مختلفة برع الفنان في تنفيذها تقنيا وفنيا.

دخل عنصر إلى عالم قطناني لم يستخدمه من قبل وهو المرايا، فضاعف من رمزية التجهيز في معان متعدّدة. وللسير وليس “للتجوال” في المشهد الفني، اختار الفنان أن لا ينقل أجواء المخيم إلاّ وقد حرّرها من مُتلازماته القمعية، إذا صحّ التعبير، وهي على سبيل المثال وليس الحصر، رداءة مضائق السير بين البيوت الهزيلة بسبب الحُفر وتجمّع المياه الآسنة ومياه الأمطار.

أدخل الفنان إلى تجهيزه الفني هذا، المرايا. مرايا لعبت دورا كبيرا في توسيع حدود المكان وجعله أقل مأساوية، إذ أضاف إليه اضطرابا بصريا جعله عالما خياليا قابلا للتحوّل إلى نقيضه في أي لحظة.

الفنان الفلسطيني وظّف في مجمل عمله الفني، مواد متفرقة استقدمها من بيئة المخيم واهبا إياها سردا تعبيريا فنيا

وخلافا لما في الفضاءات المعدنية العادية ساهمت هذه المرايا، التي يعثر فيها السائر في كل لحظة على انعكاسه، في بلورة حس التخيّل في سرداب “شحيح” يبخُل على السائر من نعمة انفتاح نظره نحو احتمالات أخرى أقل إجحافا.

من ناحية أخرى استدرج الفنان، كل سائر في هذه المتاهة، إلى أن يصبح فلسطينيا ساكنا / سائرا فيها، وفق عالم مُسبق بتلافيفها وهو مُتكل على ذاكرته البصرية والتخيلية كي يدرك في أي بقعة من المتاهة هو، وإلى أين ستأخذه المتاهة، الغائبة حتما عن حقل النظر.

كنتيجة لوجود هذه المرايا “الفانتازية” التي يباعد ما بينها صفائح زنكية ملونة،  يختبر السائر في المتاهة ما اختبرته “أليس في بلاد العجائب” حين سقطت في جحر الأرنب. فقد أحدثت المرايا في المتاهة شرخا في مفهوم الزمن، زمن السقوط أو تعليقه، وبالتالي أحدثت تصدّعا في مفهوم المكان وبنيته غير النهائية.

كما في رواية أليس الضاجة بالمعاني المُقلقة يجعل الفنان عبدالرحمن قطناني “نهاية سعيدة” لمتاهته، حين تفضي إلى موجة عارمة وهادرة مادتها من الأسلاك الشائكة التي تحوّل معناها الدرامي إلى نقيضه، ناطقا بالصبر الذي رافق صاحبه (أي الفنان) لمدة ثمانية أشهر حتى يوم الإنجاز.

أهم ما يمكن قوله عن الفنان الفلسطيني في هذا التجهيز الفني المركّب من متاهة وموجة تشكّلت موادها ممّا وجد في المتاهة وصنع منها، هو فن يجترع معجزة الخلاص والاعتراف بأهل المتاهة وصُنّاع الموجة.

14