صالة نادين ربيز تحتفي بمحاور مضيئة في زمن السقوط

تحيي صالة نادين ربيز ذكرى فنانة تشكيلية لبنانية لطالما عرضت أعمالها بين أسوارها، وهي الراحلة هوغيت كلان التي رحلت تاركة وراءها سيرة فنانة جريئة تحدت المجتمع وقيوده لتتحرر وتحرر رسوماتها وشخوصها، متخففة من كل القيود والضوابط الفنية، حتى أصبحت رمزا من رموز بيروت الفن والازدهار.
افتتحت صالة “نادين ربيز” في بيروت يوم الثامن والعشرين من سبتمبر الماضي معرضا استثنائيا ببصرية لافتة صممها ابن صاحب الصالة، المهندس كريم بكداش بالتعاون الوطيد مع بريجيت، ابنة الفنانة التشكيلية هوغيت كلان. ويستمر المعرض الذي يحمل عنوان “هوغيت ونادين، قصة صداقة” حتى التاسع والعشرين من أكتوبر الحالي.
ويضم المعرض عدة عناصر تضافرت لتكون نصا بصريا متكاملا يسرد حكاية صداقة طويلة وغنية جمعت صاحبة الصالة نادين بكداش والفنانة اللبنانية – الفرنسية – الأميركية هوغيت كالان التي توفيت سنة 2019.
كما يضم المعرض مجموعة من أعمال الفنانة ورسائل متبادلة بينهما وصورا فوتوغرافية عن أعياد ميلاد وافتتاح معارض سابقة للفنانة.
ما يجعل هذا المعرض استثنائيا ليس فقط كونه يجمع صديقتين كان لهما ولايزال تأثير كبير في مسار الحياة الفنية، بل لأنه يشكل في بيروت ظاهرة من مظاهر الاحتفاء النادرة بالمحاور المضيئة التي جعلت من بيروت مدينة النور قبل حلول زمن السقوط.
فنانة جريئة قدمت لوحات تناولت فيها جسد المرأة بحسية عالية جمعت فيها التجريد مع التقشف في الخطوط والألوان
وما يضاعف من رمزية هذا المعرض أن جيل الأبناء المتمثل بكريم بكداش، ابن صاحبة الصالة، وبريجيت كالان ابنة الفنانة هما من تعاونا بشكل حثيث لتقديم هذا المعرض هذا إذا لم نذكر أن هوغيت هي ابنة رئيس جمهورية الاستقلال الأول، بشارة الخوري، أما نادين ربيز فهي ابنة جانين ربيز إحدى أهم الشخصيات الثقافية المؤثرة التي لمع نجمها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ويُمكن اعتبار هذا الحدث الفني ضربا من ضروب الأمل باستمرار ما كانت عليه بيروت يوما ما وإن رزح وميضها تحت كوم من الرماد الحالي.
حول ثيمة المعرض تقول نادين بكداش “كانت هوغيت صاحبة روح مرحة ومُحبة للحياة. حس الحرية التي كانت تملكه ومنطق تفكيرها الناتج عن هذا الحسّ كان ما يدفعها إلى مواصلة عملها الفني”.
كل من اطلع على نتاج الفنانة هوغيت كالان عبر السنين وكيفية تبلوره وتشعبه واتخاذه قنوات مختلفة في التعبير يُدرك صوابية ما قالته نادين ربيز.
كانت هوغيت كالان المولودة سنة 1931 منذ بداية انطلاقتها فنانة جريئة قدمت لوحات تناولت فيها جسد المرأة بحسية عالية جمعت فيها التجريد مع التقشف في الخطوط والألوان التي ما لبثت أن صارت تضج وتتداخل في لوحاتها وفي الأعمال النحتية التي أنجزتها.
ويذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن الفنانة بدأت حياتها الفنية وهي ما زالت في سن السادسة عشرة. تلقت أول دروسها في فن الرسم على يد الفنان الإيطالي فرناندو مانيتي الذي كان موجودا في بيروت آنذاك. بعد وفاة والدها قررت التحرر من القيود الاجتماعية والانغماس في مجال الفن. انتسبت إلى الجامعة الأميركية في بيروت وتابعت دراستها في مجال الفنون لتتخرج بتفوق وتغادر بعد ذلك إلى باريس حيث استقرت فيها سنة 1970.
ويضيف البيان أن الفنانة غادرت باريس سنة 1987 إلى مدينة كاليفورنيا وأسست هناك محترفها الذي كانت تحلم به.
مراحل فنية عديدة تلاحقت في حياة الفنانة ومنها مشاركتها للمصمم الفرنسي الشهير بيار كاردان في تصميم قفاطين انتمت إلى مجموعة اُطلق عليها “مجموعة نون” وتذكر بما واظبت على ارتدائه الفنانة طوال سنين من حياتها بعد أن تخلت عن الملابس الأنيقة التي كانت تتماشى مع حياة والدها الاجتماعية.
ربما بوسعنا اعتبار أن أفضل ما أنجزته هوغيت كالان نجده في السنوات العشر الأخيرة من حياتها. ويُمكن للناظر إلى أعمالها الأخيرة التي تشبه مساحات مفتوحة ومشغولة بزخم وولع بالتفاصيل الخطوطية واللونية، والتي تحيلنا إلى عالم البسط والسجاجيد، أن يعثر على مشاهد تشبه أعمالها السابقة وقد تحجمت وضاقت لتكون تفصيلا في ثنايا لوحاتها/نسيجها الموغل، بل المُستنطق للعمق الفراغي آملا بأن تستخلص منه حيوات مختلفة لا تنتمي حصرا إلى عالم الواقع.
هذا الحدث الفني ضرب من ضروب الأمل باستمرار ما كانت عليه بيروت يوما ما وإن رزح وميضها تحت كوم من الرماد الحالي
كل من كان فنانا انتمى نصه الفني إلى ما يعج بوفرة التفاصيل والزخارف التي تعيش مُطلق حريتها وتناسلها من بعضها البعض كما في أعمال النمساوي غوستاف كليمت والفرنسي بول كلي، على سبيل المثال، يدرك تماما بأن فعل الانغماس بتحقيق هذا النوع من الأعمال ينفر من الاختزال ويعشق “الثرثرة”، إذا صحّ التعبير. صاحبه مولع ببناء نصه وفق منطق إضافة العناصر وليس في إنقاصها.
إنه السعي الحرّ، والدرامي في أحيان كثيرة رغم تمثله بملامح طفولية كما في العديد من لوحات الفنانة هوغيت كالان، نحو موسيقى تتألق بأصدائها ويرتفع تنوينها صعودا نحو السماء وتوسعا نحو حفاف قماش اللوحة أو النسيج دون نهاية سعيدة أو حزينة: انفتاح نحو المطلق بمعناه الفلسفي.
يُذكر أن أعمال الفنانة موجودة في أهم متاحف العالم وفي المزادات العالمية مثل “كريستيز” و”سوثبيز”.
يشار إلى أن أول معرض لها كان في “دار الفن والآداب” لصاحبته جانين ربيز وذلك سنة 1970 أما معرضها الأخير وسابق معارضها في بيروت فكانت في صالة نادين ربيز، الصالة التي احتضنت أعمالها بداية بسنة 1993 بعد قرار من ابنة جانين ربيز افتتاح صالة فنية تكون نوعا ما امتدادا لما حققته والدتها. إنه تاريخ متداخل ومتشابك في نسيج ملون وواحد يشبه إلى حد كبير ما جمع هوغيت بنادين، وما جمع بيروت بألق الأيام الماضية.
تتأمل نادين ربيز قائلة “كانت تلك أجمل سنين حياتي: العمل كان فرحة كبرى وتبادل الأفكار غنى مُتجدد وصادق كل الصدق.. كنت أود لو كان لدينا مزيد من الوقت أنا وهوغيت. لا أدري… أشعر بأن كل ما مضى، مضى بسرعة فائقة”.
ننزلق، في هذا الجوّ المُحمّل بألوان لم تبهت رغم أنها في عز ابتعادها عن شاطئ الحاضر، كما يحصل مع العديد من أبناء جيل الحرب، إلى ما قاله يوما الشاعر أنسي الحاج في ديوانه “ماضي الأيام الآتية”. ما قاله يكاد ينطبق تماما على المشاعر التي تخالجنا ونحن بصدد هذا الحدث الفني “أحبّ ذكرى الأيّام التي كانت تمشي ولا تعرف أنّها ستنتهي في كتاب. أحبّ ذكرى الأزمنة العاملة، المغموسة، الضبابيّة، ذات العمالقة الذين مشوا وهم لا يعرفون أنّهم سينتهون في كتاب. هي أيّام لم تكن أنبل منّا وكانت تعرف أنّنا سنكون أنبل منها ونجهل مجد بؤسنا وإيمان عبوديّتنا وفراغ حرّيتنا ورجاء سقوطنا. أحبّ ذكرى الأيّام التي ستجيء، تلك الأيّام الحاضرة”.


