شقيقات الوحدة أو متلازمات الحرب في معرض اللبنانية آني كركدجيان

ألوان قاتمة وشخوص وحيدة تصور أحوال النفس خلال الحرب.
الأربعاء 2023/07/05
المرأة موضوع أساسي لدى آني كركدجيان

بلوحات من مجموعاتها السابقة وبنساء وأجساد ساكنة في عز حركاتها ووحيدة رغم الضجيج من حولها، تقدم الفنانة اللبنانية – الأرمنية آني كركدجيان معرضها الفردي الجديد الذي يبحث في ثيمة الحرب ويكشف أوجها منها انطلاقا من أحوال المرأة واختبارها العيش تحت وقع الحرب.

كل فنان تشكيلي مهما تنوعت أعماله له مفتاح يدير به بوابة سرية تفتح على عالمه الخاص لينهل منه الصور ويحصد منه المشاعر والأفكار دون شعور بالاكتفاء إلا لفترة قصيرة، ليعود بعدها مشتاقا ومشدودا من جديد إلى كل ما هو خلف هذه البوابة.

الناظر إلى أعمال الفنانين يسهل له أحيانا كثيرة التعرف على المفتاح المؤدي إلى العالم المركزي الذي يطوف من حوله الفنان ويقطف تباعا منه ثماره لحظة نضوجها. غير أن هذا لا ينطبق تماما على الفنانة اللبنانية – الأرمنية آني كركدجيان. فمعظم ما كُتب عن أعمالها يعتبر أن موضوع المرأة هو موضوعها الأساسي. وربما أنني من هؤلاء الذين اعتقدوا ذلك سابقا، لكن تتبع ما تقدمه في معارضها الفردية الكثيرة سيؤدي إلى القبض على الموضوع الأهم الذي يشمل ويتمظهر بكل ما قدمت، إنه الحرب، أو بالأحرى القول إنها الأحوال التي نتجت عن اختبار العيش في فترة الحرب اللبنانية حين يكون المرء في سنين مراهقته الأولى.

قد تكون تجارب شخصية مؤلمة هي جزء من ذلك وقد لا تكون. ولكن الحصيلة لاسيما في روح تميزت بالحساسية تجاه ما يحيط بها أو ما قد حدث لها سيحفر لا نقول ندوبا، بل أنهارا لا تنضب وتغزر في عوالم ما خلف البوابة التي ذكرناها آنفا.

اليوم، تقدم الفنانة آني كركدجيان معرضا في صالة “أل.تي” اللبنانية، يضم ما يقارب 30 عملا فنيا بأحجام مختلفة. وقد جرت العادة أن تطّعم الفنانة كل معرض فردي لها ببضعة أعمال مستعادة تنضوي تحت عنوان جديد لترافق الجديد من أعمالها، فتكون هذه الحركة نوعا من التأكيد على ثراء الأفكار والمشاعر المطروحة التي تحمل أكثر من معنى يتداخل في صميمه مع المعاني الأخرى.

ندوب الحرب لا تنسى
ندوب الحرب لا تنسى

وضعت الفنانة المعرض تحت عنوان “أخوات الوحدة”. افتتح في الثاني والعشرين من يونيو ويستمر حتى السادس عشر من أغسطس القادم.

الوحدة، هذه الكلمة الفضفاضة والتي دارت في فلكها الآلاف من الأعمال الفنية في العلم تكتسب في لوحات الفنانة بعدا من نوع جديد. ففي حين تظهر النساء البطلات الحصريات في مواقف تحاكي الوحدة. الوحدة كبديل عما فقد قيمته أو انتهت مدة صلاحيته لقدر ما كان مرجوا حدوثه. وهنا تماما تنحو أعمال الفنانة، لاسيما الجديدة، نحو سكون غير معهود. سكون ضبابي يرثي ما لم يتحقق في الحياة يوما بسبب التصدعات النفسية التي فجرتها الحرب. تصدعات أغدقت فيها الفنانة أنهارا ترويها وترتوي منها على السواء شأن كل فنان في ابتكار حياة بديلة بعد أن خطفت نسختها الأصل أو تدمرت.

الوحدة في لوحات الفنانة هي ما يشبه الغطاء الأبيض الرقيق الذي تلقيه المرأة/الأم على جسد طفل رضيع

الحاضر في معظم أعمال الفنانة هو ما لم ينجزه الحب، ما لم يعثر عليه الدفء، ما لم يُحضره الآخر. ولكن أيضا ما لم تقوَ على إخفائه الحرب بعد انتهائها: استمرار الرغبة في الحياة متزامن مع الشعور بالفقد. الفقد كقدر تحاول الفنانة سوقه إلى انتصار بديل عما يشبه أفول الشمس في زمن بزوغها: إنه انتصار الفن على كل ما يجعل الحياة الحالية مقفرة وغير صالحة للعيش بالنسبة وخاصة لمن هو، كآني كركدجيان، يحتدم بنار شخصيته المتعطشة للحياة والمليئة بالمرارة الضاحكة.

أما الفضاضة التي لم تغادر لوحات الفنانة والتي وصفت في بعض أحوالها بالإيروتيكية هي أكثر ميلا للإباحية بما تعني من استباحة القلب وهدر مشاعره وآماله على تقاطعات الحرب وفصولها، وما نتج عنها من هتك للعدالة وللعاطفة الإنسانية.

لا تزال الأجساد في لوحات الفنانة لصيقة بهذه المعاني المذكورة، فهي الساكنة في عز حركاتها والوحيدة حتى ضمن الجماعة، والقادرة على التلوي والانشطار والتمدد والانسياب والتحجر والتهدج، والتفكك، والذوبان، والتضخم.

ذكرت الفنانة في تقديم أحد معارضها السابقة ما يمكن أن ينسحب على مجمل ما قدمته حتى معرضها الجديد هذا، فقد أشارت إلى أنها حاضرة في لوحاتها “امرأة تنمو إلى ما لا نهاية في الزمان والمكان، مثل خيط مرن يرتدّ فجأة إلى نفسه. أعمالي الفنية هي أسلوبي، هي أنا – نفسي (أو ما أزعم أنّي)، هي الجلد الذي أحيا داخله، هي إقامتي في الجحيم، هي خلاصي، وفردوسي”.

وذكرت في موقف آخر “نساء في سكون يستعرضن ذواتهن في جوّ من التخلي. غير أن هذا التخلي البادي على ملامحهن وهيئات أجسادهن ليس إلا ظاهر ما هن عليه في الحقيقة، إذ إنهن يستحوذن على فضاء اللوحات ويمتلكن قوانين اللعبة..”.

قق

هذه “اللعبة” التي تذكرها الفنانة هي سمة أساسية للحياة، وكيف لا تكون عندما يكون كل أمر جوهري وكل شعور غامر على المحك دوما؟ شقيقات الوحدة هن في حقيقتهن متلازمات الحرب وأشباحها التي انتحلت شخصيات نساء تداعب القطط والكلاب التي تبدو أكثر حياة منها وقد استمدت منها ما تحتاجه من الحب. حيوانات وكأنها مرايا لنفوس تلك النسوة المسكوبة كالكلس في أجساد /قوالب مطاطة تتلوى دون فرح ودون ألم. نساء ذات نظرات فارغة /حائرة وبعضها تغص ببراءة المراهقة الأولى كما في لوحة تظهر فيها ذات العينين الواسعتين والخضراوين.

ليست الوحدة في لوحات الفنانة إلا تفصيلا وهي ما يشبه الغطاء الأبيض الرقيق الذي تلقيه المرأة/الأم في لوحتين من أعمالها على جسد طفل رضيع هو أشبه بكفن لينام في حضنه إلى الأبد، هذا الذي لم يولد يوما والذي ربما استطاع إن ولد أن يكسر لعنات الماضي، ولكن أيضا ربما تمكن من تجديد صوره المرعبة.

يجدر الذكر أن الفنانة آني كركدجيان هي من مواليد 1972 حاملة لإجازة في علم النفس من الجامعة اللبنانية إلى جانب دبلوم دراسات عليا في الفنون التشكيلية وماجستير في إدارة الأعمال. لها مشاركات في معارض جماعية كثيرة داخل وخارج لبنان كما قدمت معارض فردية عديدة نذكر منها “سكون” و”الوليمة”.

14