شعارات جمال عبدالناصر العسكرية أخفت سياسة متناقضة معها

القاهرة – أثار تسجيل صوتي منسوب إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر سجالا حاميا بين مؤيديه وأعدائه، ليس فقط في مصر، بل على الساحة العربية ككل، لما تضمنه من موقف مناقض لما عرف عنه بشأن الاستمرار في الحرب مع إسرائيل.
وقد تطرق حوار مسجل للرئيس المصري الأسبق مع العقيد الليبي الراحل معمر القذافي منذ أكثر من نصف قرن، إلى ضيق عبدالناصر من معظم قادة الدول العربية، ولم يستثن سوى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكم إمارة أبوظبي وقتها (ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة لاحقا) وقال إنه أرسل مبعوثا خاصا إليه ليقدم دعما بقيمة 17 مليون دولار للمجهود الحربي المصري.
وأكد عبدالناصر في التسجيل الذي يعود تاريخه إلى الثالث من أغسطس عام 1970، أي قبل وفاته بحوالي خمسة أسابيع، أن مصر لا تستطيع الدخول في حرب ضد إسرائيل، مبررا ذلك بأن الحرب سوف تؤدي إلى تدمير ما تبقى من الجيش بعد هزيمة يونيو 1967.
تصاعدت حدة الجدل حول توقيت بث التسجيل والجهة المسؤولة عنه، وسط تضارب في تصريحات أدلى بها ابنا عبدالناصر
ولم يمر حوار الزعيم الناصري مرور الكرام، لأن المضمون الذي حواه أو الفضفضة الشخصية ناقشت العديد من القضايا، بعضها مثّل صدمة لمؤيديه وفرحة عند خصومه، حيث هزت تصوّراته رؤى ثابتة عند كليهما، لم يكن الكثيرون يعرفون فحواها جيدا، خاصة تلك المتعلقة بموقفه من التسوية السياسية مع إسرائيل والأجواء التي أدت إلى قبوله بمبادرة وليام روجرز، ودوافعها التكتيكية أو الإستراتيجية.
وقد شكا عبدالناصر في هذه الفضفضة من مزايدة بعض القادة العرب على مصر في موقفها من القضية الفلسطينية، قائلا “الدول العربية قاعدة تزّود علينا وتزايد بالكلام، لكن لما تيجي للجد، مفيش حد بيحارب غيرنا،” داعيا الدول التي تزايد عليه إلى حشد قواتها ومحاربة إسرائيل، طالما تعتبر سياساته انهزامية.
وقال إنه مستعد لتقديم دعم مالي إذا اتفقت الجزائر والعراق وليبيا وسوريا واليمن الجنوبي على حشد قواتها لمحاربة إسرائيل، متعجبا من أن قادتها يريدون تحرير فلسطين فقط من الحدود المصرية، وأضاف “لا أعرف لماذا لا يفكرون في تحريرها من الحدود الشرقية،” في إشارة تبدو متطابقة مع الواقع في الوقت الراهن، حيث ظهرت مزايدات من قوى إسلامية طالبت مصر بفتح حدودها مع قطاع غزة لمحاربة إسرائيل، ونسي هؤلاء وجود حدود مع دول أخرى، مثل سوريا ولبنان والأردن.
وتصاعدت حدة الجدل حول توقيت بث التسجيل والجهة المسؤولة عنه، وسط تضارب في تصريحات أدلى بها ابنا عبدالناصر (د. هدى والمهندس عبدالحكيم)، ما أفسح المجال لتبادل الاتهامات بين من رأوا في النشر العلني محاولة خبيثة لضرب فكرة المقاومة بالتزامن مع الحديث عن طلب إسرائيل نزع سلاح حركة حماس، ومن اعتبروه دليلا على ازدواجية ناصر بين خطابه الثوري القومي العسكري، وموقفه السياسي الليّن من الصراع مع إسرائيل.
وأوضح المهندس عبدالحكيم عبدالناصر أن التسجيل متاح في مكتبة الإسكندرية منذ إهداء أسرة الرئيس الراحل المكتبة العديد من أوراقه الخاصة وتسجيلاته الرسمية، مشيرا إلى أنه صاحب قناة “ناصر تي.في” على يوتيوب التي أذاعت التسجيل، وهناك أشخاص يقومون بإدارتها لصالحه وتحت إشرافه، ولم يوضح إذا كان هو من اختار توقيت البث الذي ظهر لأول مرة في السادس والعشرين من أبريل الجاري أم لا.
وما يثير الاستغراب أن تقدم قناة على يوتيوب يشرف عليها ابن عبدالناصر على إذاعة تسجيل مجتزأ من دون أن تدرك ذلك، أو أنها تعمدت نشره لأسباب مجهولة، والاحتمال الثالث أن يكون التسجيل تم دسّه على القناة بلا علم أصحابها.
وتساءل البعض عمّا إذا كانت إذاعة التسجيل في هذا التوقيت بطلب من جهات معينة في مصر، خاصة أن الضغوط التي تحدّث عنها عبدالناصر تشبه إلى حد كبير الظروف الإقليمية والدولية التي تواجه مصر حاليا وتعرّضها لضغوط من جهات عدة، بهدف حثها على الدخول في صدام مع إسرائيل أو مواجهة اتهامات بالتخوين، وهي اتهامات وجهت إلى عبدالناصر بعد قبوله مبادرة وليام روجرز وزير الخارجية الأميركي وقتها.
ولم يستبعد آخرون أيادي جماعة الإخوان في ترويج التسجيل بكثافة على مواقع التواصل في هذا التوقيت، لصرف الأنظار عن تصريحات كوري ميلز عضو الكونغرس الأميركي مؤخرا، والتي أكد فيها أن الرئيس السوري أحمد الشرع الذي يحظى بتأييد من جماعة الإخوان، منفتح على تحسين العلاقات مع إسرائيل، ومستعد للعمل على منع نقل أسلحة عبر الأراضي السورية تستخدم لمهاجمتها.
واستند أصحاب هذا الرأي على حملة الهجوم العنيفة التي يشنها نشطاء وإعلاميون محسوبون على الجماعة المحظورة في مصر، للتشهير بعبدالناصر، ومحاولة تصوير ما قاله في التسجيل الصوتي كانعكاس لحالة خداع وكذب قيل إنه مارسها على الشعب طوال فترة حكمه، فضلا عن عدم جديته في تبني القضية الفلسطينية، على عكس ما كان يدعيه في خطاباته الرسمية.
وأرجع الباحث والإعلامي عمرو صابح، وهو أحد المسؤولين عن القناة، التي انطلقت عام 2018، السجال العنيف حول ما تضمنه التسجيل الصوتي، إلى أن فكرة تقديم التاريخ كمادة خام بلسان صانعه أمر غير مسبوق في العالم، حيث لم تتوفر مثل هذه المواد السمعية المسجلة لأيّ زعيم عربي أو عالمي مثلما توفرت للرئيس عبدالناصر، وأن الهدف من إذاعة هذه التسجيلات هو عرض التاريخ الحقيقي لعبدالناصر بلسانه، لكنهم فوجئوا بتحول تلك التسجيلات إلى حمّالة أوجه وفقا لرؤية كل تيار سياسي لها.
وأثار التسجيل أيضا جدلا جانبيا حول ضرورة إقرار قانون تداول حرية المعلومات، الذي تعثرت عدة محاولات لإقراره في السنوات الماضية، وشددت عضو البرلمان المصري مها عبدالناصر، في منشور على صفحتها الرسمية على فيسبوك على أهمية وجود القانون، ما يتيح لكل الباحثين الوصول إلى الملفات والتسجيلات الصوتية كاملة دون اجتزاء لأرشيف الحروب التي مرت بها مصر بعد مرور أكثر من 50 عاما على حرب أكتوبر، ما يسهم في كتابة أكثر إنصافا للتاريخ، وفهما أكثر عمقا للأحداث.