شرعنة التمييز بين الأبناء تؤدي إلى انهيار التماسك الأسري

تشرّع الفتاوى الدينية للتمييز بين الأبناء في الهبات والعطايا، دون توضيح لشروط اتخاذ الآباء لمثل هذه القرارات أو حتى كيفيتها المثلى. فتفتح بذلك الباب أمام تمرد بعض الآباء في اللامساواة بين أبنائهم وهو ما يهدد تماسك الأسرة ويعمق الكراهية والغيرة بين الأبناء ويعكر صفو العلاقة بينهم وبين آبائهم.
القاهرة – مهدت دار الإفتاء المصرية لأرباب الأسر تفضيل بعض الأبناء على أخواتهم في الهبات والعطايا، وأباحت عدم إدانة الأب لما يمنحه لأولاده، وأن ذلك ليس من المحرمات ويحق لولي الأمر أن يُعطي لأحدهم أكثر من الآخر، رغم ما يترتب على ذلك من مشكلات بين الأخوة جراء التمييز والانتقائية التي يشعر بها أحدهم أو بعضهم.
وجاء الرد الديني بعد تساؤلات كثيرة وصلت إلى دار الإفتاء بشأن التفضيل بين الأبناء وما إذا كان من المحرمات أم لا، فالفتوى انتصرت للآباء الذين لديهم مبررات خاصة في مسألة التفرقة وعدم التسوية بين الجميع كأن يخص واحدا منهم بميزة مالية لمرض عنده أو كثرة الأعباء أو اشتغال بالعلم، وقالت “يُفضّل ألا يُحدث ذلك نزاعًا”.
واعترفت المؤسسة الدينية ضمنيا مؤخرا بأن اتجاه بعض الآباء للتفريق بين الأبناء لأيّ سبب ربما يتسبب في مشكلات أسرية تقود إلى نزاعات بين الإخوة، حيث يتفق خبراء التربية وعلم النفس بأن هناك تأثيرات سلبية تنتج عن هذا السلوك، لأن الابن الأقل تمييزا قد يعيش طوال حياته يشعر بالظلم ما يقوده إلى الحقد والكراهية.
ولا يزال محمود شعبان يعاني، وهو رجل خمسيني لأسرة من ثلاثة أبناء، من تمييز والده لأخيه ومنحه مزايا أكثر من باقي إخوته بدعوى أنه أكمل تعليمه الجامعي، ولم يكن تزوج قبل رحيل الأب، فكتب له الجزء الأكبر من الميراث لأنه يحتاج إلى المال، ما نتجت عنه حساسية بين الأشقاء، لاسيما وأنهم يعانون من سوء الأوضاع المعيشية.
الاحتماء بالآراء والفتاوى الدينية للتمييز بين الأبناء داخل الأسرة الواحدة من أبرز العوامل التي تكرس التفرقة
ولم يكن محمود قد أكمل تعليمه، مثل باقي إخوته إلا الأخ الأكبر الذي أصر على دخول كلية الطب وجعل الأب يمنحه الكثير من الهبات ليؤمّن مستقبله ويحقق حلمه في استكمال دراساته العليا، ووضع له الكثير من المال في البنك كي لا يواجه أزمة في سد احتياجات التعليم والزواج، وعندما اعترض الإخوة على ذلك قبل رحيل الأب قام بتعنيفهم وبرر موقفه بتفوق أخيهم عليهم.
وقال محمود لـ”العرب” إن إباحة التمييز بين الأبناء بأيّ مبرر يتسبب في توليد الكراهية والشعور بالظلم مهما بلغت النوايا الحسنة لدى الآباء، لأن منح ابن واحد أكثر مما يحصل عليه باقي الإخوة يُشعرهم بأنهم في درجة متدنية عند الأب ويخلق فجوة وسط العائلة التي قام ربها بالتمييز، ويستمر ذلك بين الإخوة طوال حياتهم حتى لو أظهروا المعاملة الحسنة مع بعضهم، ولم يتفرّقوا.
ويرى بعض خبراء التربية أنه لا مانع من تفضيل الأب لأحد الأبناء، أو بعضهم، عن الآخر شريطة أن يكون ذلك باتفاق بين كل أولاده، بحيث يشاركهم الرأي ويتحدث إليهم عن دوافعه قبل الإقدام على الخطوة لا أن يقرّها بالأمر الواقع لتجنب وقوع الخلافات بينهم مستقبلا، وحتى لا يتسلل الشعور بالظلم والدونية إليهم مقابل أن يكون أحدهم حصل على مكاسب مادية أفضل.
هكذا فعل الأب فكري محمد، حيث أن لديه ست بنات، ثلاث منهن تزوجن، والباقيات لا زلن في مراحل تعليمية مختلفة، ويخشى على نفسه أن يموت في أيّ لحظة دون أن يترك لبناته اللاتي لم يتزوجن شيئا يساعدهن على استكمال حياتهن، ما جعله يجتمع بهن ويبلغهن عمّا يدور في عقله برغبته في منح غير المتزوجات بعض الهبات والعطايا التي تعينهن مستقبلا.
وبادرت البنات الثلاث اللاتي تزوجن واستقررن في بيوتهن بالتنازل عن هذه الهبات والعطايا لأخواتهن، ما جعل الأب مستريحا لما سيفعله من دون أن يتسبّب في حدوث ضغينة أو إحساس بالحقد والغيرة بين بناته جراء ما سيقدم عليه من تفرقة مادية تبدو لها مبررات مقنعة.
وأكد فكري لـ”العرب” أن الإباحة الدينية للتفرقة بين الأبناء في الهبات والعطايا والمكاسب الأبوية لا تعطي الآباء الحق في التمييز والانتقائية دون شرح الدوافع لكل أولاده، فعلى الأقل يشعرهم بقيمتهم وحقهم في مشاركته ما يملك، قبل أن يمنح ويعطي لأحد أكثر من الآخر، عكس قيام الأب بتفضيل أحد الأبناء وتجاهل الجميع، لأن ذلك سوف تنتج عنه تداعيات سلبية بالغة الخطورة عليهم لاحقا.
ويرى بعض الخبراء أن الاحتماء بالآراء الدينية للتمييز بين الأبناء داخل الأسرة الواحدة بذريعة التحفيز على النجاح أو إظهار الحب والمودة وتأمين المستقبل من أبرز العوامل التي تكرس التفرقة حتى لو كانت الإباحة الدينية مستوحاة من حرية الأب في التصرف بما يملك، لأن ذلك وإن لم يولّد الكراهية سوف يجعل الأبناء يتصارعون على الاقتراب من الأب بأيّ طريقة كانت ليحقق كل منهم مكاسب مضاعفة.
وتكمن الخطورة في أن المؤسسة الدينية بفتوى إباحة التفرقة بين الأبناء بمصر كسرت حاجزا نفسيا طالما منع الكثير من الأسر أن تقوم بالتمييز، حيث كانت الأغلبية تؤمن بأن ذلك من المحرّمات التي لا يجوز الاقتراب منها، وبذلك صار البعض يعتقدون في إمكانية التفضيل والتمييز لأسباب وقناعات تخصهم، ثم بدعوى أن الإسلام دعا إلى ذلك طالما توافرت الأسباب المنطقية والدينية.
وأوضح جمال فرويز الاستشاري النفسي والمتخصص في العلاقات الأسرية بالقاهرة أن تمييز أحد الأبناء عن إخوته خطأ في حق الطرفين، سواء الذي حصل على مكتسبات أكثر أو الأقل استفادة، لأن المحرومين من الهبات يشبّون ولديهم كراهية للأخ المفضل لدى الأب، ويمكن أن يشعروا بالدونية وعدم الثقة بالنفس فتتولد في وجدانهم مشاعر الغيرة وتغلب عليهم الأفكار التي تقود إلى النزاعات بين الأخوة.
وذكر لـ”العرب” أن شعور الابن بأنه مميز عن باقي إخوته قد يجعل منه إنسانا أنانيا محبا للتملك والسيطرة، لأنه تربى على أنه أفضل من غيره ويتعامل على أنه شخصية استثنائية، بعد أن تربى وكبر على عملية تفضيله عن غيره من الأشقاء، وبالتالي فالتفضيل غير الرشيد يؤسس للفرقة بين الأبناء وربما يقود إلى عقوق الوالدين من جانب الأولاد الذين لم يتم تمييزهم، لأنهم يشعرون بالاضطهاد.
وقد تكون الميول الأبوية تجاه أحد الأبناء مسألة طبيعية لأنهم يختلفون في الطباع الشخصية، لكن الإفصاح عن ذلك علانية، مع التمييز المادي والمعنوي، يؤسس لأسرة مفككة تسودها الأنانية، ولذلك فأيّ تربية أسرية قائمة على الانتقائية وعدم المساواة بين الجميع من الصعب أن تنتج ترابطا أسريا قويا بين الإخوة معا أو بين الأبناء والآباء، ولو لم يعلن صراحة، فما يعتمل في النفوس من غيرة وتراكماتها لها مردودات سلبية.