شخوص التشكيلي السوري حسام بلان تغادر لوحاته من "الفضاءات المُقلقة"

نصّ معاصر يجمع ما بين التجريد وتشكيل عوالم هندسية.
الأربعاء 2022/12/21
فنان مهووس بالأشكال الهندسية

ابتعد الفنان التشكيلي السوري حسام بلان في معرضه الجديد عن الواقعية، لينحاز أكثر إلى التيار الميتافيزيقي لكنه لا يغير كثيرا من أشكاله التي يعكس من خلالها مدى قدرته على هندسة العناصر في لوحاته، وملئها ببنى هندسية متتالية.

افتتحت صالة "أجيال" في بيروت يوم السادس من ديسمبر الحالي معرضا فرديا للفنان التشكيلي السوري حسام بلان تحت عنوان “فضاءات مُقلقة” ويستمر حتى السادس من يناير المقبل. يضم المعرض مجموعة من اللوحات بأحجام كبيرة ومشغولة بالألوان الزيتية.

أول ما يتبادر إلى ذهن من رأى إعلان “صالة أجيال” عن معرض الفنان التشكيلي السوري حسام بلان الذي تضمن صورة عن إحدى لوحاته المعروضة هذه التساؤلات: هل الصورة هي فعلا للوحة من لوحات للفنان؟ أين ذهبت شخوصه التي برع في رسمها بخصوصية عالية؟ ماذا جرى للواقعية التعبيرية التي رافقته لعدة سنوات؟

تساؤلات حضتنا على التواصل مع الفنان ولقائه لأجل استيعاب هذه الثورة على ما قدمه في معارض سابقة له حيث حضرت الشخوص ولاسيما الأولاد كعناصر أساسية تحرك وتعطي المعاني المختلفة لخلفيات لوحاته. شخوص تناولها الفنان حسام بلان في عدة معارض، ولُقب لأجلها بـ”بيكاسو سوريا” وذلك لأنه رسمها تحت تأثير إرث الفنان الإسباني الشهير بابلو بيكاسو. تأثير لم ينفه يوما حسام بلان بل اعتبره محطة أساسية في مساره الفني المتبلور على الدوام.

ما من أحد يعمل في المجال الفني لا يعلم أن “الأسلوب الفني” الذي يعتمده ويتميز به أي فنان هو من أهم السمات التي تمكّنه وتمكّن اسمه على الساحة الفنية حدّ أن تنعدم ضرورة وجود توقيعه الشخصي لأن عمله بات لا يحتاج إلى توقيع ليُعرف من هو مُنجزه.

الفنان عاشق لتخصيب الألوان بما لا تطيقه من ألوان أخرى كي يقيم معنى غرائبيا هو أقرب إلى الحياة المتحولة دوما
الفنان عاشق لتخصيب الألوان بما لا تطيقه من ألوان أخرى كي يقيم معنى غرائبيا هو أقرب إلى الحياة المتحولة دوما

أما الفنان حسام بلان فقد قام بخطوة جريئة جدا يعلم تماما أن بعدها لا مجال للتراجع عندما قدم معرضه الجديد المُبتعد تماما عن الواقعية التعبيرية التي اعتمدها سابقا مُتجها إلى نصّ معاصر يجمع ما بين التجريد وتشكيل عوالم هندسية مدنية مُبسّطة تحاكي الصمت وذهول الضوء في القناطر المُشيدة في أروقة متداخلة تتكرر حتى تتبدل من الكبير إلى الصغير وبالعكس لتأخذنا إلى عالم ميتافيزيقي جمالي يحيلنا إلى الكثير من لوحات الفنان الإيطالي جورجيو دي شيريكو الذي يعد من أهم الفنانين المؤسسين لتيار الفن الميتافيزيقي.

غير أن ما يجعل نص الفنان حسام بلان مغايرا لنصّ جورجيو دي شيريكو هو أنه مشرقي بكل معنى الكلمة ليس فقط لناحية انعدام وجود الشخوص في لوحاته، بل أيضا لكون الأبعاد التي يضعنا أمامها في العديد من اللوحات المعروضة تكاد أن تكون أبعادا ثنائية فقط. ولولا اشتغال الفنان على اختيار الألوان وحيثية وضعها في أماكن محددة من الأشكال الهندسية، التي تحاكي مداخل أحياء غريبة وغامضة، لكانت ستبدو لنا كأنها "مُسطحة" لا أبعاد فيها.

هذه الأعمال بالتحديد وأيضا تلك التي بدت وكأن الأشكال فيها تعرضت لكسوف لوني في أحد جوانبها أو كأنها تلقت فعل شفرة حادة حدّت من تكوّر أشكالها البيضاوية ومن اكتمال البدور التي تحولت في لوحة من اللوحات إلى سلسلة من أهلّة لا هي لأقمار ولا هي عناصر من أبنية عادية فأوقعت الغرائبية ونشرت الإحساس بالقلق في نفس المُشاهد. هذه الأعمال بالتحديد يحتاج المرء إلى بضع لحظات قبل أن تتكون أمامه مفاهيم بصرية ترمز إلى مسارات خيالية قادرة على أن تأخذه إلى عمق اللوحة وإلى الغامض ما خلفها رغم ألوانه الناصعة.

 وإن كان الفنان الإيطالي دي شيريكو “يسكب” الضوء ويبسط ظلاله على أرض لوحاته، فالفنان حسام بلان “يقيم” للضوء صروحا متعددة على عدد لوحاته. الضوء في لوحة دي شيريكو يبدو أن مصدره شمس لا نراها.

أما الضوء في لوحة بلان فهو حسي أثيري في آن واحد ومجهول مصدره. ربما هو الحيّز المكاني في حدّ ذاته وقد تلقى العناصر والهيئات الهندسية المتنوعة كمن يتلقى زائرا لن يمكث طويلا. وربما هو أيضا انعدام مرور الوقت ويمكن إدراكه عبر مفاهيم ميتافيزيقية قريبة جدا مما اختبره الصوفيون.

روح الفنان تتجسد في الأشكال التي يبدع في رسمها
روح الفنان تتجسد في الأشكال التي يبدع في رسمها 

إلى جانب هذه اللوحات التي غلبها التسطيح المبدئي توجد لوحات أخرى في المعرض يشكل فيها الفنان البعد الثالث بوضوح فتخف وتيرة القلق: تظهر القناطر والمداخل والنوافذ واضحة تتكرر وتتبدل ألوانها ويرقّ بنيانها على بعضها البعض ويغلظ تارة أخرى لتبقى من خامة واحدة تعيد ابتكار ذاتها في عيّنات متجددة في كل لوحة من لوحاته.

أما بالنسبة إلى مراوحة الألوان التي استخدمها الفنان فيبدو في كلتا المجموعتين من اللوحات عاشقا لتخصيب الألوان بما لا تطيقه من ألوان أخرى كي يقيم معنى غرائبيا هو أقرب إلى الحياة المتحولة دوما وأبعد من الانسجام الكامل الذي يستسيغه معظم البشر وهو مرتع لغفوة عميقة لا تحفزّ على التساؤل والمفاوضة.

يبقى سؤال يطرح ذاته: هل حقا خرج الفنان بالكامل على كل ما عرض سابقا؟ ليس تماما. فهو الميّال بطبعه إلى التجريب والاختبار. وهو الذي قال منذ عدة سنوات "كنت وما زلت أعشق المدرسة الواقعية، لكني رأيت أن الخطاب يجب أن يتوجه إلى المكان الصحيح، لأنه بعد عشرين عاما من العمل، فإن عموم الناس تتطور نظرتهم إلى الفن، وهكذا فإن العمل الفني يتطور تلقائيا".

◙ حسام بلان في اتصال مباشر مع ذاته وانفتاح تام على ما تحمله التجارب له وتلك التي يفتعلها في محترفه

ويضيف “تأثرت بفنون الحضارات أولا، وبالفنانين لؤي كيالي، وصفوان داحول ثانيا، لكن التأثير دائما يصبح ماضيا، واللوحة هي الآن، والعمل ينفصل بالنهاية عن كل مشيمة. دائما الحل في النسيان، يجب أن تكون كل لوحة بداية جديدة تهدم وتبني من جديد كل مرة".

ويكفي النظر بتأنّ إلى لوحات السوري حسام بلان السابقة لندرك من ناحية إلى أي درجة يهوى الفنان هندسة العناصر في مساحة لوحاته، ونلاحظ من ناحية أخرى أن البنى الهندسية والأقواس والقناطر والمداخل والمخارج التي وجدناها في معرضه هذا كانت حاضرة في العديد من لوحاته السابقة ولم يأت نصه الحالي من الفراغ. كما أن جو “المسرحة”، إذا صح التعبير، الذي كان يعمّ في لوحاته السابقة هو حاضر اليوم في لوحاته الجديدة.

الفنان حسام بلان في اتصال مباشر مع ذاته وانفتاح تام على ما تحمله التجارب له وتلك التي يفتعلها في محترفه، وهو فنان توّاق إلى ما قد يقوده خياله ليتابع ابتكار وجهات نظر مختلفة لعالم واحد يهشمه انعدام الاستقرار.

يُذكر أن الفنان السوري حسام بلان مولود سنة 1983. وهو عضو في جمعية المعلمين بجامعة دمشق منذ عام 2009. شارك في العديد من ورش العمل مع الفنان ج. برادلي آدامز والرسام خوسيه فريكسانيس، كما قام بالتدريب على رسم الجداريات بالمشاركة مع بيير بولاس. بدأ في العرض الفني سنة 2007 وكان له، إضافة إلى مشاركات في معارض جماعية، عدد من المعارض الفردية.

14