شجاعة الأسرة في مطاردة المتحرشين ثقافة مصرية نادرة

التحرش بطفلة داخل مدرسة يثير مخاوف في ظل صرامة القوانين.
السبت 2025/01/18
على الأمهات أن يكن مستمعات جيدات لأطفالهن

يؤكد متخصصون في الطب النفسي على ضرورة أن يجد الطفل تحركا سريعا من أسرته بعد وقوع حادثة التحرش، لأنه قد يصاب بانهيار نفسي إذا وجد سلبية ويحتاج إلى سنوات طويلة كي يعود إلى طبيعته مرة أخرى.كما يؤكد استشاريو العلاقات الأسرية أن غالبية الأسر لم ترب أطفالها على الحديث بشجاعة مع الأهل وهو ما من شأنه أن يقود إلى مخاطر كثيرة.

القاهرة - أعادت واقعة تحرش تعرضت لها طفلة مصرية داخل مدرسة مؤخرا، مخاوف بعض أولياء الأمور من عودة مشاهد الاعتداءات الجنسية على الأطفال بعد أن كانت توارت منذ فترة طويلة بُحكم الإجراءات التي اتخذتها الحكومة ووزارة التربية والتعليم بالعزل الوظيفي للمتحرشين ومحاكمتهم جنائيا.

وتعرضت طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات لمحاولة اعتداء جنسي من عامل داخل مدرسة، تبين لاحقا أنه ارتكب جرائم مماثلة ولم يتقدم أحد بشكوى إدارية أو بلاغ إلى الشرطة، مع أن العامل صدرت بحقه أحكام قضائية في إدانات مرتبطة بتعاطي المخدرات، وسط تساؤلات عن كيفية عمله بمدرسة للأطفال.

كانت أم الطفلة أكثر شجاعة بعد أن تحركت للقصاص لابنتها ضحية التحرش، حيث حكت لها الصغيرة ما حدث معها تفصيليا، وكيف استدرجها عامل المدرسة، وفتحت قضية بعد أن تقدمت الأم ببلاغ إلى الشرطة، وأُلقي القبض على المتهم الذي أقر بارتكاب الجريمة.

أظهرت الواقعة إلى أي درجة يصبح وعي الأسرة أول خطوة لمطاردة المتحرش قبل تحوله إلى ذئب بشري، لأن هناك وقائع تسببت فيها سلبية الأب والأم في تكريس ظاهرة التحرش لترددهما في الإبلاغ عن أي اعتداء جنسي واجهه أولادهما خوفا من الفضائح، أو حرصا على تجنب تجريس الطفل أمام زملائه في المدرسة.

تعتمد وقائع التحرش بالأطفال داخل بعض المدارس أو غيرها على أسلوب متواتر يقوم على استدراج الطفل أو الطفلة بحجة اللهو أو شراء الحلوى، ثم الاعتداء في مكان معزول والتهديد في حال إبلاغ الأمر إلى أي من أفراد أسرته، ما يلقي بتساؤلات حول دور الأسرة في توعية صغارها بكيفية حماية أنفسهم.

حدث ذلك مع الطفلة ضحية التحرش عندما أوهمها المتهم بأنه سوف يعطيها بعض الحلوى مقابل أن تذهب معه إلى مكان بعينه، ثم قام بالتحرش بها ومحاولة الاعتداء الجنسي عليها، لكن الصغيرة قصّت كل شيء إلى أمها التي تعاملت بإيجابية مع القصة واستطاعت حشد الرأي العام لدعمها وتسريع محاكمة المتهم.

عنان حجازي: تربية الأطفال على الحديث بشجاعة مع الأهل ثقافة نادرة مع أن ذلك يقود إلى مخاطر كثيرة
عنان حجازي: تربية الأطفال على الحديث بشجاعة مع الأهل ثقافة نادرة مع أن ذلك يقود إلى مخاطر كثيرة

جزء من المشكلة، أن بعض المدارس تتستر على المعتدين أو المعروف عنهم سوء السمعة خشية أن تطالهم العقوبات الإدارية، فهناك مدراء مدارس ينفون وجود حالات تحرش للأطفال ويقومون بحماية المعتدين حفاظا على سمعة المدرسة، لكن وزارة التعليم تقرر عزلهم وظيفيا بتهمة خيانة الأمانة عندما تكتشف الأمر.

لم تكن لتتحدث أي طفلة إلى أمها، لكن في هذه الواقعة نشأت الطفلة على قيم محددة زُرعت فيها من خلال الأسرة، واعتادت التحدث مع الأم بأريحية وبلا خوف، وتربت على أن تكون قريبة من أسرتها وتتحدث بشكل جيد ويستعمون لها كل يوم عقب عودتها من المدرسة، بما سهل مهمة القصاص لها بعد أن وقعت فريسة للاعتداء.

يعتقد متخصصون في الطب النفسي أن الأهم بعد وقوع حادثة التحرش أن يجد الطفل تحركا سريعا من أسرته، وإذا وجد سلبية قد يصاب بانهيار نفسي ويحتاج إلى سنوات طويلة كي يعود إلى طبيعته مرة أخرى، لكن تظل المشكلة في افتقاد بعض الأسر المصرية لثقافة مواجهة المتحرشين بجرأة والتمسك بمحاكمتهم.

فهناك فئة تغض الطرف لتجنب المشكلات وأخرى تتهم الطفل بأنه السبب، وثالثة تفضّل عدم تشويه صورتها أمام القريبين، ومن النادر أن يستيقظ المجتمع على أسرة تُعلن صراحة تعرض أحد أبنائها لتحرش أو اعتداء جنسي وتطالب بالقصاص، مع أن عددا كبيرا من الناس اعتاد التعاطف مع الضحية.

ويُحسب على المدارس أنها لا تقدم للأطفال جلسات توعوية لحمايتهم من المتحرشين، بسبب وجود ممانعات مجتمعية ضد التطرق إلى أي شيء يخص القضية، مع أن الخطاب البسيط أقصر طرق المواجهة،خاصة عندما يتعود الطفل على حماية نفسه ولو بالصراخ حال الشعور بالخطر، لأن المتحرش جبان.

ولا يوجد خطاب توعوي واضح مماثل للأسرة نفسها، فقد يكون الطفل ضحية التحرش جريئا في الإفصاح عما تعرض له، لكن لا يجد دعما من أسرته، مقابل تعرضه إلى عنف لفظي لأنه ارتضى أن يتحول إلى ضحية واستسلم ولم يواجه المتحرش، ما قد يدفع بعض الأبناء إلى الخوف من الحديث مع الأسرة.

كما أن تنشئة الأطفال على المصارحة مع الأهل في يجنبهم الوقوع فريسة للذئاب البشرية، والعبرة أن تكون الأسرة واعية في تربية الصغار على كيفية تحصين أجسادهم أو التغرير بهم، فالمشكلة نابعة من الأهل قبل أي فئة أخرى.

◙ هناك وقائع تسببت فيها سلبية الوالدين في تكريس التحرش لترددهما في الإبلاغ عن أي اعتداء جنسي واجهه أولادهما

أكدت ردود الفعل الغاضبة ضد واقعة عامل المدرسة المتحرش بالطفلة الارتفاع الملحوظ في الوعي عند بعض الأسر، وظهر ذلك في إلقاء اللوم على الآباء والأمهات الذين اعتادوا الصمت مع أبنائهم ولا يسمحون لهم بالفضفضة أو التعبير عن همومهم، والدعوة إلى فتح نقاش من دون سقف بين الطرفين.

قالت عنان حجازي استشارية العلاقات الأسرية في القاهرة إن تربية الأطفال على الحديث بشجاعة مع الأهل ثقافة نادرة، مع أن ذلك يقود إلى مخاطر كثيرة أبرزها إمكانية أن يشكو الابن أوجاعه وهمومه للغرباء وليس الأسرة، وتوجد أسر تتبع نمط تربية قائما على الترهيب، وهذا لا يصلح مع الأطفال.

وأضافت لـ”العرب” أن جرأة الأسرة في مواجهة المتحرش تعيد الثقة سريعا للضحية، وهذا ما يجب أن تستوعبه العائلات في المجتمعات التي تتعامل مع قضية التحرش بحساسية، ولأسباب واهية مثل تجنب الفضيحة والعار، وخلافه، وسلبية بعض الأسر هي التي تشجع المتحرش على التمادي بجرأة.

وأشارت إلى أن عدم الثقة في الأبناء أو الاستماع لهم إذا تعرضوا للأذى النفسي والجسدي يقود إلى كوارث أسرية، والمشكلة أن الكثير من الآباء لم يدركوا أن الظروف تغيرت والأجيال الجديدة بحاجة إلى من يسمعها ويمنحها الثقة ويحتويها، لاسيما الأطفال، وإذا لم يحدث ذلك يتعرضون لانتكاسة نفسية.

ومهما شرّعت الحكومة المصرية من تشريعات مشددة لمحاسبة المتحرشين سوف تصطدم بسلبية أسرية غير مبررة، أما لو كانت هناك جرأة في المواجهة كجزء من ثقافة المجتمع، فمن المؤكد أن الجاني لن يُقدم بسهولة على التحرش لإدراكه أن الأسرة لن تصمت أو لن تخشى مطاردته بعيدا عن الخوف من الفضيحة.

وتكمن المعضلة الحقيقية في أن العائلة مهما كانت أكثر انفتاحا وجرأة ووفرت لضحية التحرش مظلة حماية أسرية للقصاص من الجاني مستفيدة من صرامة العقوبات، فإنها قد تتراجع أمام تدخل وسطاء للتنازل، ما يحتم على الحكومة فرض عقوبة على المتحرش كحق للمجتمع، ولو تصالحت الأسرة لترتاح من بعض الضغوط.

15