سياسة الصمت تزيد الغموض في تونس

يتصاعد منسوب الجدل في تونس بشأن قصور السياسة الاتصالية لمؤسسات الدولة (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة)، ونقص فاعليتها في علاقة بالوضع الصعب الذي تعيشه البلاد وتغذيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
تونس - لا يزال الغموض يكتنف المشهد العام البلاد، وسط صمت سياسي مطبق تجاه التطورات الاقتصادية الطارئة والحركات الاجتماعية من فترة إلى أخرى، حيث انتقد متابعون للشأن التونسي غياب طرق التواصل السلطوي مع الفئات الشعبية وتقديم توضيحات بشأن ما يجري.
ولم يلق الخطاب الأخير لرئيسة الحكومة نجلاء بودن استحسانا سياسيا ولا شعبيا، بعد فترة طويلة من الانغلاق والتقوقع و”غياب المعلومة” الواضحة بشأن قضايا تؤرق التونسيين على غرار غلاء الأسعار والاتفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي وشروطه، فضلا عن ارتفاع منسوب الهجرة غير النظامية واتساع رقعة الفقر والبطالة وتردي مستوى الخدمات بالبلاد.
ودعت بودن خلال كلمة ألقتها، الأسبوع الماضي في إطار الندوة الثلاثية حول “إعادة التفكير في هيكلة عالم العمل في تونس من أجل إنجاح التعافي بعد جائحة كوفيد - 19 “، الشعب التونسي إلى التمسك برباط الثقة في دولته ووطنه والمضي قدما في تحقيق تطلعاته.
وأكدت بودن أن الاقتصاد التونسي في طريقه نحو التعافي والاستقرار، وأن الحكومة عازمة وثابتة على تجاوز مختلف التحديات واسترجاع التوازنات المالية واستكمال مسار الإصلاحات التي شرعت في تنفيذها، ومن أهمها على المدى القصير إرساء إجراءات عاجلة لتنشيط الاستثمار وتحسين مناخ الأعمال وتبسيط الإجراءات.
ووجهت رئيسة الحكومة رسالة إلى الشباب التونسي مفادها أن “تونس وطنكم ولكم فيها ما تعملون وما تصنعون وما تبنون من آمال وما تحققون من أحلام..فلنكن معا صانعي أمل وحياة ولنثمن ما جني ونصلح ما يجب إصلاحه ونعمل بعزم وحزم حتى نحقق ما نسمو إليه جميعا من كرامة وعدالة وحرية وتنمية..طريقنا واحد نحو تحقيق مشروعنا الوطني المنشود فلنرفع هذا الرهان والتحديات معا”.
ويقول مراقبون إن الوضع الراهن في تونس يتطلب تقديم خطاب سياسي صريح يشخّص الأزمات ويقدم لها حلولا مناسبة، فضلا عن بعث رسائل طمأنة حقيقية تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الواقع وتطلعات المستقبل.
وقال المؤرخ خالد عبيد، إن “السياسة الاتصالية الحالية للسلطة غير ناجعة ولا تتلاءم مع الظرفية والواقع الذي تعيشه البلاد”، لافتا إلى أن “الواقع يتطلب مصارحة وتواصلا مع الرأي العام التونسي والحديث عن الصعوبات الحقيقية حتى يدرك الشعب حقيقة الوضع والأزمة”. وأضاف لـ”العرب”، “الصمت اليوم هو اختيار من مؤسسات الدولة ولا ندري إن كان سيتواصل”.
ولم يكن ضعف السياسة الاتصالية رهين حكومة بودن، بل عانت الحكومات المتعاقبة بعد ثورة يناير 2011 من نفس المشكلة، إما لتواضع إمكانيات فريقها الاتصالي أو لاختيارها الصمت كآلية زمن الأزمات.
ويقول صلاح الدين الدريدي، الباحث في الاتصال والعلاقات العامة، “هذه أحلك مرحلة في الاتصال السياسي والعمومي في تونس منذ 2011، وحتى الاتصال في عهدي الرئيسين المنصف المرزوقي والراحل الباجي قائد السبسي وإن كان لا يرتقي إلى مستويات الجودة المطلوبة فهو كان موجودا”. وأضاف لـ”العرب”، “هناك رفض إعلامي واتصالي للرئيس قيس سعيد يكاد يكون ممنهجا، وظهر أنه من نوع السياسيين الذين لا يحبّذون الإعلام والاتصال، كما أنه لا توجد ثقافة ولا إستراتيجية اتصالية، وأصبح التكتم حول المعلومة وخيارات الدولة هو القاعدة”.
وتابع الدريدي “التعامل الاتصالي للدولة مع مأساة مدينة جرجيس (وفاة عدد من المهاجرين غير النظاميين) كان كارثيا على كافة المستويات، كما غابت المعلومة ومصادرها جهويا ومركزيا، ما كشف أن المؤسستين لا تتوفران على ثقافة اتصالية وإعلامية في المجتمع الديمقراطي المفتوح، كما لا يجب أن ننسى باقي الوزارات وتأكد أنه لا يوجد رؤية ولا إستراتيجية ولا كفاءات اتصالية”.
ويتطلّع الرأي العام في تونس إلى معرفة تفاصيل اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي والحصول على قسط أول في حدود 1.9 مليار دولار مقابل البدء في إصلاحات اقتصادية موجعة.
ويشير صلاح الدين الدريدي إلى أنه “من شروط الاتصال مع صندوق النقد الدولي تقديم إستراتيجية اتصالية حول البنود والشروط، والرئيس سعيد لا يؤمن بالإعلام ويكتفي بالطلعات الخطابية”، مؤكّدا “هناك أمية اتصالية، ومنذ 2011 المجتمع الإعلامي والاتصالي اهتم بالإعلام فقط مهملا موضوع الاتصال، لكن من حق المواطن الاطلاع على برامج الدولة لتفسير الاختيارات”.
ودعت شخصيات سياسية رئاستي الجمهورية والحكومة إلى رفع اللبس القائم في المشهد بشأن حقيقة الأوضاع، عبر مصارحة الشعب بخطاب سياسي واضح وإعلامه بكل التفاصيل والحيثيات المتعلقة بالقضايا الكبرى.
وأفاد الناشط السياسي المنذر ثابت، “المشكلة الاتصالية الحاصلة هي إحدى الثغرات الأساسية للسياسة الرسمية، حيث أن خطاب الطمأنة الذي تحتاجه الشعوب في المحن والأزمات غير موجود لدى الرئيس، وبالنسبة إلى الحكومة فالاتصال غائب عنها تماما، وهي حكومة فقدت ملكة النطق والتزمت الصمت في مرحلة يحتاج فيها الرأي العام إلى توضيح خارطة طريق بخصوص الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية”.
وقال في تصريح لـ”العرب”، “الملف السياسي ممسوك من الرئيس، ولكن المفروض أن تقدم الحكومة برنامجا اقتصاديا ونموذج إصلاحات تنموية، نقص خطير في الاتصال في ظرف أزمة، ما فسح المجال لمناورات المعارضة بافتعال الأزمات والإيهام بحدوث انتفاضة”.
وتابع ثابت “يبدو أن العملية مرتبطة بغياب تعليمات واضحة من رئاسة الجمهورية للحكومة، والمشكلة في وضوح الرؤية للقيادة السياسية، وكان من الضروري إعلام الشعب بتفاصيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ولكن يبدو وكأن الاتفاق سرّي”.
وأوضح أن “غياب الاتصال ألقى بمسؤوليات بصفة مجانية على غياب السلطة، وفي قضية الهجرة غير النظامية تم تحريف الأزمة من مشكلة تتعلق بالهجرة إلى تحميل المسؤولية للسلطة”.
وتكتفي المؤسستان بإصدار بلاغات على صفحتهما الرسمية في علاقة بالتطورات والمستجدات، دون خطاب تلفزيوني مباشر، حيث يعود آخر خطاب للرئيس سعيد إلى أكثر من شهرين في وقت تتعمق فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وسط غياب المعلومات الدقيقة.
وكان الأمين العام لحركة تونس إلى الأمام عبيد البركي قد دعا الرئيس قيس سعيد، إلى “مخاطبة الشعب بخطاب واضح دون توصيف”، مشدّدا على أن “تكون المصارحة استشرافية تحمل الأمل من أجل غد أفضل”.
وقال البريكي في تصريح لإذاعة محلية إنه “آن الأوان ليخرج الرئيس للشعب لمصارحته وطمأنته بآفاق استشرافية من خلال طرح حلول وبرنامج عمل للمرحلة القادمة”.
ويشدّد الرئيس سعيد، في كل مرة على تمسكه بحرية التعبير والإعلام، مشترطا أن يكون ذلك مسبوقا بـ”حرية التفكير” التي تحافظ على الدولة ومؤسساتها.
وفي وقت سابق، أكد الناطق الرسمي باسم الحكومة التونسية نصرالدين النصيبي، أن “علاقة الحكومة مع الإعلام واضحة”. وأضاف في تصريح لإذاعة محلية أن “من حق الصحافيين الحصول على المعلومة”، وذلك في إطار رده على الانتقادات التي طالت السياسة الاتصالية لحكومة بودن.
وكانت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، قالت في بيان، إن رئاسة الحكومة تصر على نهجها في التعتيم على المعلومات، ووضع عوائق غير مشروعة على عمل الصحافيين خلال تغطيتهم لأنشطتها بمقرها في القصبة.