سياسة الإقصاء لكل إعلامي يحاول التحرر من القيود لن تتوقف في مصر

معاقبة إعلامي مارس دوره الرقابي بطاقة صفراء لمنابر تحاول التغريد خارج السرب.
الجمعة 2020/12/11
العقوبة تصحيح مسار أم إسكات صوت

الإسراف في معاقبة البرامج التلفزيونية في القنوات المصرية نال من مسؤوليتها، وجعلها أقرب إلى نشرة إعلامية لا يتجاوز مذيعوها تلاوة البيان الحكومي والتعليق عليه بإيجابية، ويحمل رسالة ترهيب لكل العاملين في المنظومة بإمكانية التعرض لعقوبة، إذا مارسوا دورهم بما يتخطى الإطار المسموح به.

لم يفلح التظلم الذي تقدم به الإعلامي المصري أسامة كمال للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، على قرار وقفه أسبوعين دون أسباب مقنعة، في تليين مواقف الجهات المسؤولة عن ضبط المشهد، رغم الجدل الذي صاحب القرار، باعتبار أن الواقعة التي عوقب بسببها لم تتجاوز تقديمه لبلاغ للنائب العام على الهواء ضد وزارة الاتصالات.

وبرر المجلس اتخاذ قرار بوقف كمال المذيع بفضائية المحور الخاصة أخيرا، بأنه اعتمد على معلومات مغلوطة وسوّق لها على الهواء مباشرة، وحاول إثارة الرأي العام وإحداث حالة من البلبلة بتقديم بلاغ ضد مؤسسة حكومية بأسانيد غير واقعية، ما تطلب معاقبته بالإيقاف وعدم الظهور على أي وسيلة إعلامية لمدة أسبوعين.

وأعلن كمال حصوله على معلومات تفيد بإمكانية خسارة الدولة المصرية مليارات الجنيهات سنويا إذا لم تتدخل لوقف تنفيذ إسرائيل لممر كابلات بحرية يربط دول العالم ببعضها، ما يفقد مصر منجما من الذهب باعتبارها لاعبا رئيسيا في مجال أعمال مراكز البيانات، ويجعلها تخسر مكانتها في هذا التخصص.

ولأن أسامة كمال يدرك حجم الروتين الحكومي في التعامل مع القضايا الحساسة، استغل موقعه الإعلامي ووجّه كلامه للرئيس عبدالفتاح السيسي ليتدخل بنفسه ويسرّع خطوات وزارة الاتصالات للتعامل مع الأزمة باحترافية، لكن كان رد المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أسرع بالتحقيق الإداري، وصدور قرار بمنعه من الظهور الإعلامي.

غياب ثقافة حق الرد في الإعلام المصري يشير إلى حجم التضييق الذي تمارسه الهيئات الرقابية ضد العاملين بالمهنة

وأعادت الواقعة الجدل الإعلامي في مصر حول طبيعة عمل الجهات المسؤولة عن ضبط وإدارة المنظومة برمتها، هل دورها تقييد حرية الرأي والتعبير وتحجيم أي صوت يغرد خارج السرب، أم توجيه الإعلامي في حال الخطأ وتصحيح مساره، أم منع المنابر من تفجير قضايا جماهيرية يفترض أنها تمس صميم كيان الدولة.

ويكمن الاهتمام بالواقعة، في أنها الأولى من نوعها التي يتصدى لها المجلس الأعلى للإعلام منذ تشكيله الجديد قبل ستة أشهر، وكان العاملون في المهنة يمنون أنفسهم بأن الطريقة التي كان يدار بها المشهد مع المجالس السابقة ولت بلا رجعة، ويبدو أن سياسة الإقصاء لكل من يحاول التحرر من القيود، ليمارس دوره بمهنية لن تتوقف.

وأمام إشادة الرأي العام بالإعلامي لأنه مارس دوره الرقابي، كان الوسط الصحافي والإعلامي ينتظر من مجلس تنظيم الإعلام الإشادة بموقفه أو على الأقل السماح للطرف الآخر (وزارة الاتصالات) بالرد لتصحيح المعلومات الخاطئة، لكن المجلس اختار الطريق السهل بتكميم صوت المذيع.

ويواجه المجلس اتهامات بممارسة القيود أكثر من تنظيم المشهد، خصوصا لأن أسامة كمال خبير في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وإحدى الشخصيات القليلة في مصر التي تستثمر في هذا المجال بجانب عمله الإعلامي، ورفض من قبل شغل منصب وزير الاتصالات.

ويرى مراقبون، أن الواقعة وإن كانت تخص مذيعا بعينه، لكنها تعكس الحالة التي أصبحت عليها وسائل الإعلام ودورها، فالواضح أن النظرة صارت قاصرة على القيام بدور الثناء على الحكومة وقراراتها، وما دون ذلك ليس من ضمن أدوارها.

ويقول هؤلاء، إن معاقبة الإعلامي لمجرد أنه انتقد جهة حكومية، يحمل رسالة ترهيب لكل العاملين في المنظومة بإمكانية التعرض لذات العقوبة، إذا مارسوا دورهم بأكبر من الإطار المسموح لهم، كما يفقد الإعلام مكانته عند المسؤولين ويجعلهم يتعاملون مع كل من يحمل صفة صحافي أو مذيع باستخفاف.

وأكد حسن علي أستاذ الإعلام ورئيس جمعية حماية المشاهد المصري، لـ”العرب”، أن الإعلامي لن يستطيع ممارسة أي دور رقابي والمؤسسات الإعلامية تحت السيطرة، والهيئات المنوط بها إدارة المنظومة أصبحت رقابية أكثر مما ينبغي.

وقررت نقابة الإعلاميين وقف المذيع عن الظهور بأي وسيلة إعلامية بدعوى أنه ليس عضوا بالنقابة ولم يحصل من قبل على ترخيص بمزاولة المهنة، في مؤشر يعكس أن الأزمة برمتها مفتعلة، لأن أسامة كمال يمارس العمل الإعلامي منذ سنوات طويلة، وتنقل بين أكثر من قناة.

ويبدو أن المجلس الأعلى للإعلام، أدرك الخطأ الذي ارتكبه بإيقاف المذيع دون سبب مقنع، فقرر الاستعانة بنقابة الإعلاميين للإعلان عن مبرر أكثر جدوى، وهو عدم حصوله على عضوية النقابة، كما لو أن كمال مبتدئ، في حين أن أغلب الوجوه الإعلامية في مصر ليست مدرجة بجداول النقابة، التي لا زالت تحت التأسيس.

وقال حسن علي، إن القيود المفروضة على الإعلامي “كارت أصفر لكل من يحاول السير على نفس النهج، أو يدخل ما يسمى بمناطق الألغام، والتحجج بعدم حصول المذيع على ترخيص مزاولة المهنة”.

حسن علي: الإعلامي لن يستطيع ممارسة أي دور رقابي والمؤسسات الإعلامية تحت السيطرة والرقابة أكثر مما ينبغي

ويقول خبراء الإعلام، إن إصدار عقوبة تجاه أيّ برنامج لمجرد أنه مارس دورا رقابيا، يجعل نصف الحقيقة غائبة عن الجمهور، فماذا يستفيد المشاهد من إسكات مذيع انتقد تقصير وزارة بعينها، تسببت في خسارة البلاد مليارات الجنيهات، هل ذلك يعني أنه كان على خطأ أم أن الجهة المتهمة بالتقصير ارتكبت خطأ يستوجب معاقبتها.وكان من الطبيعي حتى وقت قريب، أن يشاهد المصريون مذيعا يتلو على الجمهور ردا وصل إليه من جهة حكومية انتقدها في حلقة سابقة للتعليق على ما أثاره، لكن مع الإسراف في معاقبة البرامج التلفزيونية نال من مسؤوليتها، وجعلها أقرب إلى نشرة إعلامية لا يتجاوز مذيعوها أكثر من تلاوة البيان الحكومي والتعليق عليه بإيجابية.

ويزيح غياب ثقافة حق الرد في الإعلام المصري الستار عن حجم التضييق الذي يمارس ضد العاملين بالمهنة من جانب الهيئات المعنية بإدارة المنظومة، لأن ذلك يعني تحول أغلب المنابر إلى مجرد نشرة لترويج البيانات الرسمية، وعدم النبش في قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية تستحق تسليط الضوء عليها.

ويدافع البعض عن قرار وقف البرامج التي يتطرق مذيعوها لقضايا حساسة تمس السيادة المصرية، بدعوى أن ذلك ليس له علاقة بالدور الرقابي الذي يمارسه الإعلام، بل يرتبط بالأمن القومي والمواءمات السياسية من جانب الحكومة، وطريقة إدارتها للملف، وهذه النوعية من القضايا يتم التعامل معها في الخفاء بعيدا عن الرأي العام.

وأكد مسعد صالح أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، أن ممارسة الإعلام لدوره الرقابي يجب أن تكون بعيدا عن القضايا التي تلامس الدبلوماسية والعلاقات مع الدول الأخرى، لأنه ليس كل ما يعرف يقال، والتطرق إلى هذه الملفات يحرج السلطة عموما، كما أن توجيه الخطاب إلى رئيس الدولة مباشرة يلغي دور باقي المؤسسات.

وأضاف لـ”العرب”، أن الإعلامي عندما يخاطب الرئيس ولا يرد عليه، فإن ذلك يظهر بأن رأس السلطة مقصر أو يعرف خبايا الأمر ولا يتكلم، وهذا خطأ، ولا يجب أن يمارس الإعلام دوره الرقابي عبر الضغط على الحاكم مباشرة، لأن ذلك يضعه في مواجهة مع المتشوقين لمعرفة الحقيقة، ويظهر الدولة كأنها بلا مؤسسات قوية.

18