سلسلة الألغاز البوليسية.. من يتذكر تلك المتعة الآسرة

المغامرون الخمسة.. نكهة مصرية بمرجعيات إنجليزية وفرنسية.
السبت 2020/06/20
أغلفة وعناوين لا يعرف سحرها إلا من عاصرها وكانت جزءا من طفولته

العقل البشري وثّاب بطبعه وتوّاق إلى كل ما هو غامض وملغز، إلى أن يكتشف أمره ويزيح الالتباس عنه. من هنا جاءت الرواية البوليسية كأسلوب أشبه بالمعادلة الرياضية التي لم يكن يهنأ لعشاقها جفن حتى يحلوا أحجيتها. هذا العالم الساحر نقله إلينا المبدع محمود سالم عبر سلسلة مميزة شغلت جيلا كاملا على امتداد العالم العربي.

هل يتعلق الموضوع بغريزة متأصلة في الذات الإنسانية، وتنطلق من فكرة الهوس بالبحث والتحقق وربط الأوصال المتقطعة والمتناثرة في أي حدث بشري؟ من كان الأسبق.. الجريمة أم الرغبة في كشفها؟

يبدو أن الهوس بالمكاشفة والتبرير والتفسير هو الذي قاد الإنسان إلى ابتداع القصة البوليسية كذريعة لمسح ومعرفة النوازع الكامنة وراء فعل تدينه الأعراف والقوانين والعقائد.. أليس في قصة النبي يوسف وامرأة عزيز التي راودته عن نفسها، عبر القميص الذي شُدّ من دبر، خير دليل على متعة كشف الحقائق، وفق منطق إنساني يقيم الحجة على الجاني؟

ذاكرة مشتركة

كل ما تقدم، يعطي للرواية البوليسية وازدهارها في العالم، مشروعية تاريخية وفلسفية وعلمية، بالإضافة إلى قيمتها الأدبية والتربوية والتعليمية.

القصة البوليسية في العالم العربي لم تكن سبّاقة ولا رائدة، لكنها كانت مواكبة لنشوء هذا النمط من الكتابة. استنسخت بعضه ضمن بيئة محلية تراعي الخصوصيات في البيئة العربية، وحاولت أن توجد لنفسها موقع قدم في الدراما المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، لكنها سجلت تميزا ملحوظا في الإنتاج القصصي الموجه للفتية واليافعين، عبر سلسلة مميزة كان قد كتبها المصري محمود سالم (1931 ـ 2013)، وطبعت جيلا كاملا على امتداد العالم العربي، حتى أسست لذاكرة مشتركة، فباتت أسماء الفتية الأبطال لهذه السلسلة، نطلقها على بعضنا بعضا، على سبيل التفكه والتذكّر.

كم سمينا ومشاكسا ونبيها كنا نطلق عليه اسم تختخ، وكم صبية تحشر أنفها في كل شيء، كنا قد سميناها نوسة.. وكم واحدا منا أطلق في طفولته على كلبه اسم زنجر، ذاك الحيوان الألوف الأسود الذكي، وهو يرافق المغامرين الخمسة في كل لغز بوليسي آسر، يحبس الأنفاس.

محمود سالم: ما كتبته كان استعادة حياة طفل متوحد ومنعزل
محمود سالم: ما كتبته كان استعادة حياة طفل متوحد ومنعزل

هذا بالإضافة إلى محب، عاطف وأخته لوزة كي يكتمل الرقم 5 في تماثل لقصص إنجليزية شبيهة. ولم تحتفظ السلسلة بذاك التنميط الذي قد يبدو مفتعلا، لكنها اجتهدت في إضفاء الخصوصية المصرية من حيث الأحداث والمواقع والشخصيات كصورة المفتش سامي ذي  الفطنة الواسعة، والشاويش علي، ذي الذكاء المحدود، والطبيب مختار، ذي التفهم والرحابة، بالإضافة إلى آخرين كان قد أضفى عليهم الكاتب محمود سالم رونقا خاصا ونكهة رائقة.

الخطوط الدرامية لكل شخصية كانت حاضرة بقوة ومشغولة بحرفية هائلة، وذلك بتفطن الكاتب إلى عدم إهمال الشخصيات الجانبية والموازية مثل المفتش سامي الذي يثق بالمغامرين ثقة مطلقة ويلجأ إليه المغامرون عندما يحتاجون إلى معلومات أو مساعدة الشرطة في القبض على المجرم. ثقته في المغامرين جعلته يعرض عليهم العديد من القضايا ومنها الخطير جدا ليسألهم مشورتهم أو ليشتركوا في حل اللغز إن جرت الأحداث في المعادي.

الشاويش علي: هو الشاويش فرقع في قسم شرطة المعادي حيث يقطن المغامرون. اعتاد أن يقول للمغامرين “فرقعوا من هنا!”، فأطلقوا عليه لقب الشاويش فرقع. كان يتضايق من المغامرين لقدرتهم في حل ألغاز عجز هو الكبير عن حلها.

جلال: ابن أخ الشاويش فرقع. من أكبر المعجبين بتختخ. اشترك مع المغامرين في لغز البيت الخفي ولغز الأمير المخطوف ولغز القصر الأخضر ولغز الشاويش فرقع وغيرهم.

الدكتور مختار: طبيب وعم محب ونوسة. اشترك مع المغامرين في بعض المغامرات مثل (لغز الشيء المجهول) التي كانت تتضمن مطاردات مثيرة بالسيارات. محب شديد الإعجاب به ويتمنى أن يصبح طبيبا مثله في المستقبل.

زعيم عصابة كلب البحر: زعيم إيطالي لعصابة عريقة. أوقعه المغامرون في (لغز كلب البحر). بعد خروجه من السجن تاب وأصبح صديقا للمغامرين. زارهم في المعادي في (لغز العنكبوت الذهبي).

السائق وجيه: سائق شهم التقى به المغامرون في قصة الفارس المقنع انتهت بحصوله على جائزة مالية ضخمة اشترى بها سيارة أجرة بيجو عصرية ، وفق مقاييس ذلك الزمن، لنقل الركاب بين القاهرة والإسكندرية.

عواد: زميل تختخ في الدراسة، يقيم في الفيوم بالقرب من قرية شكشوك ومن بحيرة قارون في عزبة كبيرة بمساحة 50 فدانا يتوسطها قصر كبير. ارتحل إليه المغامرون في إجازة ولكنها تحولت إلى مطاردة مهرب دولي كبير اسمه (كنت).

الفهود السبعة

المغامرون الخمسة: محب، لوزة، نوسة، عاطف وتختخ
المغامرون الخمسة: محب، لوزة، نوسة، عاطف وتختخ

أما الالتفاتة الأكثر نباهة وإنسانية في تلك المرحلة التي لم يكن يهتم فيها بذوي الاحتياجات الخاصة، فكان وحيد، فتى مقعد. أسس جماعة يطلق عليها اسم الفهود السبعة بغرض منافسة المغامرين في كشف الجرائم وحل الألغاز. تطور هذا السلوك ليصبح عدوانيا تجاه المغامرين. فتعرض الأصدقاء للضرب والاعتداء عليهم.

استطاع المغامرون أن يتغلبوا عليهم بالذكاء والقوة، بل وساعدوهم في تحرير أحد الفهود المختطفين من قبل عصابة تزييف أموال. حلّ وحيد جماعة الفهود السبعة وأصبح صديقا حميما للمغامرين. واشترك معهم في أدوار صغيرة في عدد من المغامرات.

هذه السلسلة التي كان لمحمود سالم الفضل في تأليفها بتلك التفاصيل الأخاذة، ولدار المعارف القاهرية الريادة في نشرها، هي، وببساطة معقدة بعض الشيء، مجموعة مغامرات بوليسية تدور عادة حول حوادث اختطاف وسرقة وفي بعض الأحيان الجاسوسية. يعمل المغامرون في كل مرة على حل لغز الجريمة بجمع الأدلة حول مكان الحادث والتعرف على الناس المشتبه بهم وقد يستخدمون التنكر للإيقاع باللص، في أسلوب يعج بالتشويق.

 حديقة منزل عاطف وشقيقته لوزة، هو المكان الذي يجتمع فيه المغامرون لمناقشة ما لديهم من معلومات ومعطيات، ومن ثم الوصول إلى بعض الاستنتاجات والتخمينات بغية المسك بطرف الخيط، وفي وقت آخر يتم التخطيط للمرحلة المقبلة.

تتطور الأحداث بشكل كبير حتى لحظة الإيقاع باللص. هذه النهاية قد تشمل نهاية هادئة (لغز اللص الشبح) أو مطاردات عنيفة في الصحراء (وادي المساخيط ووادي الذئاب) أو حتى داخل المستشفيات (لغز عصابة يوم الخميس).

الخصوصية المصرية لم تغب عن أجواء تلك المغامرات، وإن بدت ذات طابع برجوازي صغير ضمن علاقات مرفهة وميسورة الحال.. ربما أراد الكاتب، من خلف ذلك، أن يقربنا من المزاج الأوروبي الذي استوحى منه بعض القصص وعمل على إعدادها، وربما لأن أجواء الستينات ومنتصف السبعينات في مصر كانت تسمح بذلك في أوساط الطبقة المتوسطة قبل استفحال “العشوائيات” في أماكن السكن وأنماط العيش وطرق التفكير.

غابة الشيطان

سلسلة الألغاز التي ظلت قابعة في أذهان ثلاثة أجيال في العالم العربي ليست بمثل الاستهتار الذي ينظر من خلاله بعضهم لذلك المنجز الكتابي العملاق

ضاحية المعادي القاهرية كانت تدور فيها معظم الأحداث والألغاز.. وهذا ما يفرض نوعا من الأسلبة الواقعية التي تعطي للأحداث مصداقيتها، على اعتبار أن الكاتب يعرفها بشكل جيد. ولم يتبجح بالمغامرة خارج بيئة لا يعلمها، لكنه قدّم صورة بانورامية لمختلف الأقاليم المصرية، فبعض المغامرات جرت أحداثها في الصحراء (لغز وادي الذئاب) و(لغز وادي المساخيط)  و(لغز الرجل الأزرق) و(لغز أبوطرطور).

هذا إلى جانب جزء آخر جرت أحداثه في مختلف المدن المصرية شمالا وجنوبا مثل مدينة الفيوم حيث جرت فيها أحداث (لغز المهرب الدولي) و(لغز الموسيقار الصغير). كذلك الإسكندرية حيث جرت فيها أحداث ألغاز (الجزيرة المهجورة) و(منتصف النهار) و(الشيء المجهول) و(الزجاجة الصفراء) بالإضافة إلى مغامرة خطيرة في حقل ألغام بالقرب من مدينة العلمين، كما هو الشأن  في “لغز غابة الشيطان”.

وعلى الرغم من هذا الانفتاح على مختلف المدن المصرية عبر تنوعها البيئي والاجتماعي، لم يقدم الكاتب على التطرق إلى مغامرات خارج مصر إلا عددين وحيدين من ضمن العشرات في السلسلة، وهما “لغز كلب البحر” و”لغز المدينة العائمة”، حيث جرت أحداث الأول على ظهر سفينة والثاني في إيطاليا، وتحديدا في مدينة البندقية.

أما على صعيد المواضيع المطروقة، فكانت الثيمة المتبعة غير بعيدة عن مزاج المرحلة وموجة المسموح بتناوله في إطار المشهد الإعلامي السائد والمكرس في مصر الستينات والسبعينات، إذ سمح المؤلف لأبطاله بالتورط في بعض الأحداث المتعلقة بالجاسوسية التي كادت أن تودي بحياتهم (لغز الكاميرا السرية)، وخاضوا الأهوال لمحاربة سرقة الآثار وتهريبها خارج بلدهم (لغز المهرب الدولي، لغز القبر الملكي، لغز الأخرس)، بالإضافة إلى مواجهتهم مجرمين متسلسلين (لغز التسعة). كل عدد هو متميز في تلك السلسلة بصورة غلافه التي تشبه ملصقات الأفلام، مع الاحتفاظ بحالة ثابتة وهي صورة المغامرين الخمسة على الغلاف الخلفي لكل لغز، من اليمين إلى اليسار: محب، لوزة، نوسة، عاطف، تختخ.

وإلى جانب هذه الهوية البصرية والسمة الطباعية لهذه السلسلة، فإن أهم ما يميز مغامرة محمود سالم في ألغازه البوليسية، هو أنه جعل لتلك الأحداث نكهة مصرية محببة، من خلال أدق التفاصيل وأكثرها حميمة رغم مرجعياتها الإنجليزية والفرنسية. ولم يخطر ببال واحد منا في تلك المرحلة العمرية، أن أي لغز من هذه الألغاز، غريب على الناشئة المصري، والعربي عموما.

مغامرة كتابية

محمود سالم تأثر بمخترع الشخصية الشهيرة أرسين لوبين
محمود سالم تأثر بمخترع الشخصية الشهيرة أرسين لوبين

كل سطر كان محكم الإتقان ولصيقا بالبيئة والمزاج العام.. وهنا تكمن براعة الإعداد ونقل بيئة نحو أخرى دون “خيانة أو تنكر”، ذلك أن كل شيء يبدو مصريا حتى النخاع.. ولم يتفطن أحدنا ونحن فتيانا إلى مرجعية أجنبية لأي مغامرة من تلك المغامرات، إلا بعد أن كبر واضطلع وأتقن لغات أخرى غير العربية.  

صدور مئة ألف نسخة من سلسلة الألغاز عند صدور العدد العاشر، يعدّ أمرا غاية في الذهول، ومدعاة للدهشة في ذلك الوقت بل حتى الآن.. أي دار تغامر بمثل هذا الرقم لولا نسبة الإقبال؟

تشي هذه المعطيات بحجم الإقبال على القراءة الورقية في عصر ما قبل الكمبيوتر، لكن المغامرة استمرت مع هذه “المغامرة الكتابية” التي استخدمت فيها مفردات حداثية كالهواتف النقالة في بدايات العشرية السابقة. لعل الشغف هو أهم ما ميز هذه التجربة التي تفرد صاحبها رغم ما تلاها من عمليات نشر تناوب عليها كتاب آخرون ولنفس السلسلة، ذلك أن الرجل قال في إحدى المقابلات الصحافية “أعتقد أن المغامرين الخمسة هي نوع من استعادة شجون وذكريات طفل متوحد ومنعزل”، وقال أيضا “عندما وصلنا للكتاب العاشر طبعنا 100 ألف نسخة في الشهر، وبعد ذلك أصبح المغامرون الخمسة هم حياتي… وكنت أحصل على 50 جنيها على العدد وأدفع منهم 5 جنيهات للضرائب”.

إيمانا منا بثنائية التأثير والتأثر، ولأن الكتابة الإبداعية ليست “وحيا يوحى”، فإن المصري محمود سالم، لا شك أنه قد تأثر بواحد من عمالقة الرواية البوليسية الذين خرجت من تحت معاطفهم أسماء كبيرة، وهو موريس إيميل لوبلان (1864 ـ 1941) مخترع الشخصية الشهيرة أرسين لوبين، “اللص الظريف”.

سلسلة الألغاز التي ظلت قابعة في أذهان جيلين أو ثلاثة في العالم العربي، ليست بمثل الاستهتار الذي ينظر من خلاله بعضهم لذلك المنجز الكتابي العملاق. ربما تجاوزتها أعمال سينمائية وكرتونية حديثة من حيث التقنيات، لكنها مطبوعة في ذاكرة مرحلة ممتعة، أيام كانت القراءة فيها ملاذا لا غنى عنه.. وفوق ذلك كله، علمتنا جملة قيم فكرية وجمالية يصعب وجودها الآن على الشاشات الزرقاء.

أين منا ذاك الزمان الذي كنا نتبادل فيه فتيانا ويافعين، تلك الكتب الصغيرة اللطيفة في العطل الصيفية، نقرأ منها بنهم وننتظر جديدها بشوق كبير. كل هذه النوستالجيا، نكتوي بها، نحن دون غيرنا في العالم العربي، فنحن فندعي حداثة مفتعلة.. لا نحن تمكنّا من المقروء ولا من المرئي. وظل حالنا يشبه البطة التي تسبح ولا تغوص، تمشي ولا تركض.. تطير ولا تحلق.

16