سلبية الأسرة في مواجهة المتحرش تكرس تعدد الضحايا

يدفع صمت الأسر عن تعرض بناتها للتحرش إلى إحساسهن بأنهن يواجهن معركة رد الاعتبار لوحدهن، وقد يؤدي تكذيب الأسر لبناتها في حوادث التحرش التي يكون فيها الجاني فردا من العائلة الموسعة إلى إقدام الضحية على الانتحار. وتصبح القوانين الموضوعة لمحاسبة المتحرشين غير ذات جدوى لما تصطدم بسلبية غير مبررة من بعض الأسر في مطاردة الجاني.
القاهرة – “ابن عمي الكبير تحرش بي، ولم يصدق والدي القصة عندما أخبرته بها.. وداعا”. كانت تلك العبارة آخر ما كتبته الفتاة المصرية علياء عامر على حسابها الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك قبل أن تنتحر بإلقاء نفسها من شرفة منزلها بالطابق الثالث مؤخرا، ما تسبب في صدمة واسعة للعديد من الفتيات،أحدثت تفاعلا مجتمعيا كبيرا مع قضيتها.
حرّكت واقعة علياء المياه الراكدة في قضية الصمت الأسري عن المتحرشين، وبيّنت كيف يؤدي تخاذل العائلة تجاه ضحية التحرش إلى خسائر عديدة، بعد أن تجد الضحية نفسها وحيدة في مواجهة ضغوط نفسية لا تستطيع تحملها، وعندما تلجأ إلى الطرف الذي يفترض فيه السند والدعم والاحتواء يتعامل معها بسلبية، وربما يحملها مسؤولية ذلك.
شجاعة الفتيات في الإفصاح عن حوادث التحرش قد تقابل بتكذيب من جانب الأسرة، وهي أزمة معقدة يعانين منها
قد تكون الحادثة فردية، غير أن معانيها تهم الكثير من الفتيات والأسر، فقد أدلى مقربون من الضحية بشهادات كثيرة على صفحاتهم الرسمية بموقع فيسبوك تضمنت تعرض علياء لضغوط كبيرة من جانب أسرتها منذ أفصحت عن تعرضها للتحرش، بدعوى أنها كادت تتسبب في خلافات داخل العائلة، ما جعلها تعيش ضغوطا صعبة قبيل إقدامها على الانتحار، هي ما دفعها إلى وضع حد لحياتها، وفقا للعديد من الروايات.
فتحت النيابة العامة المصرية تحقيقا حول ملابسات الواقعة، لكنها قالت في بيان رسمي إن التحقيقات لم تقطع بعد الشك بإثبات وجود شبهة جنائية في وفاة الفتاة، وذلك ردا على اتهامات كثيرة لأسرتها بأنها السبب في وفاتها، خاصة أنها انتحرت بعد ثلاث ساعات فقط من نشر روايتها التي تفيد بأن ابن عمها تحرش بها، لكن أسرتها لم تصدقها.
واستمعت لأقوال والدها وأشقائها وبعض ذويها وخلصت من أقوالهم إلى وجود خلافات أسرية بين الفتاة ووالدها، وسابقة تعرضها لتحرش من أحد أقاربها، لكن التحقيقات لم تقطع بعد الشك بإثبات وجود صلة بين انتحارها وبين خلافاتها مع والدها أو واقعة التحرش المذكورة، وهي من ألقت بنفسها من شرفة مسكنها.
ورأى متابعون للقضية أن الحكومة المصرية مهما شرعت في وضع قوانين مشددة لمحاسبة المتحرشين سوف تصطدم بسلبية غير مبررة في ظل رفض بعض الأسر مطاردة الجاني، سواء أكان من الأقارب أم من الغرباء، لأسباب ترتبط بحماية المرأة من الفضيحة التي ستلاحقها مستقبلا بعد تشويه سمعتها، وهناك أيضا فتيات فكرن بذات المنطق الأسري المشوه ويتجنبن الحديث عن تحرشات تعرضن لها.
وترفض الكثير من أسر الفتيات اللائي تعرضن للتحرش استثمار شجاعتهن في الإفصاح عن تلك الوقائع، حتى لو كانت كل واحدة منهن تسعى للثأر لنفسها وجسدها من أحد أقاربها، لكن الشجاعة قد تقابل بعنف لفظي وتكذيب من جانب الأسرة لحدوث الواقعة، وهي أزمة معقدة تعاني منها فتيات كثيرات في مصر، نظرا للثقة المفرطة التي تحملها الأسرة للأقارب، مع أن البعض منهم أصبحوا ذئابا بشرية.
وتشير بعض الوقائع التي جرى رصدها من قبل مراكز متخصصة إلى أن الفتاة مهما كانت جريئة في مواجهة رفض التحرش لن تكون لهذا التحرك قيمة أمام سلبية الأسرة، لعدم تصديقها أو خوفا عليها من التنمر المجتمعي بعد ذلك، حيث يمكن أن تنتشر بين العائلة وفي المحيط السكني شائعة تعرض الفتاة للاغتصاب ما يؤثر على مستقبلها في الزواج ويجعل هذه التهمة، وإن لم تحدث، تطاردها طيلة حياتها.
الصمت العائلي قد يوفر لهؤلاء دافعا إلى القيام بالمزيد من التحرش اعتقادا في أن الفتاة وأسرتها ستواجهان الأمر بسلبية شديدة، أو لن تكون لديهما عزيمة المواجهة
على مستوى المجتمع تعزف الكثير من الأسر عن التقدم ببلاغات رسمية خشية وصم بناتها بتشبيهات بشعة، فقد تتعرض الأنثى لضغوط متشعبة من أسرتها أو بعض الوسطاء والمعارف ونسيان ما حدث، وربما تجد نفسها وحدها في خوض المعركة دون دعم أسري وتختصر الطريق بأن تتنازل عن حقها، ولن تستطيع الصمود في مواجهة فكرة الانتحار، ففي لحظة ضعف معينة قد تتحول الفكرة إلى حقيقة.
وأكدت عبير سليمان الناشطة الحقوقية في مجال المرأة بالقاهرة أن أي قانون تستهدف من خلاله الحكومة مواجهة التحرش لن يكون ذا قيمة طالما استمرت الأسر في تبني النهج السلمي تجاه المتحرشين وتجنب ملاحقتهم قضائيا بدعوى أنهم من الأقارب ولا يمكن أن يفعلوا ذلك أو بدافع الخوف على مستقبل الفتاة، بالتالي فإن القضاء على هذه الظاهرة المسيئة يرتبط أولا بشجاعة الأسرة.
وأضافت لـ “العرب” أن “أزمة بعض الأسر تكمن في التعامل مع الأقارب -مهما كانت سلوكياتهم سلبية- بنوع من القدسية ورسم خطوط حُمر حولهم ، فلا تقبل أن تقال فيهم كلمة سلبية ولو ارتكبوا وقائع مشينة بحق فتياتها، وهذه ثقة مفرطة تشكلت عبر عقود طويلة لسيطرة عادات وتقاليد بالية دون إدراك لاستغلال بعض الأقارب لهذه الثقة”.
وهناك أسر تبرر خوفها من فضح المتحرشين، ولو كانوا من الأقارب، بأن المجتمع نفسه اعتاد تصوير الضحية على أنها الجاني، وربما هي التي دفعت الشاب إلى التحرش بها أو تحاول تبرئة نفسها من ارتكاب فعل غير أخلاقي بإلصاقه لأحد أقاربها، وهنا تكمن الأزمة في ثقة الأسر ببناتها.
وكثيرا ما روت منشورات على منصات التواصل الاجتماعي قصصا عن فتيات عانين من التحرش ولم يساعدهن أقرب الناس إليهن، مثل الأب والأم، وبلغ الأمر حد تكذيب رواياتهن لمجرد أن التهمة تطال أفرادا تربطهم بالأسرة علاقة اجتماعية.
وأوضحت الناشطة عبير سليمان لـ”العرب” أن “نمط التربية القائم على التخوين وعدم الثقة في الأبناء أو الاستماع لهم إذا تعرضوا للأذى النفسي والجسدي يمكن أن يقود إلى كوارث أسرية، والمشكلة أن الكثير من الآباء لم يدركوا بعد أن الظروف تغيرت والأجيال الجديدة بحاجة إلى من يسمعها ويمنحها الثقة ويحتويها، خاصة الفتيات المراهقات، وإذا لم يحدث ذلك قد ينتحرن”.
ويمكن تبيّن سلبية بعض الأسر تجاه وقائع التحرش ضد بناتها من خلال عدد البلاغات المقدمة إلى مراكز الشرطة والمؤسسات القضائية في مصر، فهي نادرة للغاية مع أن هناك عقوبات أقرتها الحكومة وتشريعات صدرت عن مجلس النواب لمحاربة ظاهرة التحرش تصل إلى حد فرض الحبس المشدد ثلاث سنوات، لكن معدلات الأحكام الصادرة متدنية، وهذا لا يعني عدم وجود متحرشين، لكنه يعكس سيادة ثقافة التسامح والتهاون الأسري في حق الضحايا من الفتيات.
وطالما غابت الشجاعة الأسرية عن مواجهة المتحرشين، فإن الصمت العائلي قد يوفر لهؤلاء دافعا إلى القيام بالمزيد من التحرش اعتقادا في أن الفتاة وأسرتها ستواجهان الأمر بسلبية شديدة، أو لن تكون لديهما عزيمة المواجهة، وستخافان من الفضيحة لتجنب التصدع داخل العائلة الواحدة إذا كان المتحرش أحد أفرادها.