سجون معاصرة تفتح أبوابها في معرض المصري إيف خياط

"تجهيز بصري" يسرد ذكريات الفنان وانتقاده السعي الجماعي وراء الشهرة.
الجمعة 2023/08/18
مواضيع "جارحة"

في معرضه الجديد “تجهيز فني” يسرد الفنان المصري إيف خياط فصلا مهما من حياته أثر في تكوينه الشخصي وفي أسلوبه الفني، ألا وهو الهجرة “القسرية” إن صح التعبير، التي لا تزال تحرك مجموع أعماله وتجعل تجربته مخصصة لفهم مكامن النفس البشرية وتحاول تحرير المشاعر والذاكرة على سطح اللوحة.

السجن تيمة شغلت الأكثرية الساحقة من الفنون العربية، ولا غرابة في ذلك إذ أن الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة المتداخلة التي تلت الحرب العالمية الثانية لم تترك بلدا عربيا إلا وحضرت إليه مُبدّلة منطق النظر إلى الهوية والتباسها وإلى الحياة والموت على حد السواء، وقد تبدى ذلك بوضوح في الأعمال الفنية.

ولئن تشارك العالم الغربي مع العالم العربي، لاسيما منذ بداية الألفية الثالثة، في الخلخلة التي طالت الأنظمة الاقتصادية وبلغت أوجها خلال وبعد انتشار وباء كورونا فإن العالم العربي توالت عليه الأزمات دون توقف وكان جزءا كبيرا منها صُنع في تلك البلدان العربية أو كان متواطئا مع مُسبّبها الخارجي.

وعلى مدى سنوات متتالية تطور مفهوم السجن في النصوص الفنية وتشعبت دلالاته وأبعاده لتطال كل مرافق الحياة. وما أعمال الفنان المصري المتعدد الوسائط إيف خياط ذي الأصول اللبنانية إلا مثال على ذلك. فقد قدم في معرضه “سجون معاصرة” أنواعا متعددة من السجون اللامرئية التي يقبع داخلها الفرد من ناحية والجماعة من ناحية أخرى، حيث أن بعض هؤلاء غير مدركين لوجودهم في حصار يزداد خنقا كلما مرت السنوات.

المشهد العام للمعرض ليس أقل تشاؤما؛ إذ يتطرق الفنان إلى ماهية الموت خارج معناه العضوي المباشر
المشهد العام للمعرض ليس أقل تشاؤما؛ إذ يتطرق الفنان إلى ماهية الموت خارج معناه العضوي المباشر

ربما لأجل ذلك سيشعر زائر معرضه “تجهيز فني”، الذي يُقيمه في صالة مارك هاشم في باريس، بأنه على الأقل أمام حالة سجن واحدة تذكّره أو تلفت نظره إلى ما يعيشه هو على أرض الواقع في زمن معاصر يلعب فيه الافتراض والزيف والازدواجية والشعور القاتل بالوحدة أدوارا بطولية.

والجدير بالذكر أن الفنان يسرد بمناسبة معرضه فصلا مهما من حياته وهو لا يزال يافعا قبيل مغادرته مصر ويكشف المنطق العام الذي يحرك مُجمل أعماله الفنية؛ يسرد “القاهرة. صيف 56. الرئيس جمال عبدالناصر أمم قناة السويس. الجيوش الإسرائيلية والفرنسية والبريطانية مدعومة بالجهاز العسكري الأميركي تهدد بالهجوم. من وجهة نظري كصبي بعمر الـ10 سنوات كل صفارات الإنذار وأصوات الأجهزة الحربية السيّارة وجحافل البشر القلقة وسيارات الشرطة والصراخ اكتسبت أحجاما مضاعفة. ثم

جاء زمن الحظر والأوراق السوداء التي كنا نضعها على زجاج نوافذ المنازل كي نستطيع أن نضيء مصابيح النور.

وساعات الحجر الطويلة التي كان ممنوعا علينا أن نعتّب فيها خارج منازلنا. كلها ذكريات اكتسبت ظلالا شاهقة. وتاليا كان علينا أن نغادر مصر في غضون 48 ساعة مع حقيبة سفر، تاركين وراءنا ذكرياتنا”.

في ظل هذا السرد تتوضح معالم كثيرة من “سجون معاصرة” التي تبرعمت في خيال الفنان/الصبي خلال ساعات الحظر في المنزل مرورا بإجباره هو وعائلته على مغادرة الوطن خلال يوم واحد نحو سجن آخر من نوع آخر هو العالم المعاصر الذي يرفع الجدران الافتراضية بين البشر تحت قناع يناقض فعله ويتبجح بالحرية والوفرة.

ويذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن الفنان يكشف أمام زوار معرضه “السباق اللاهث وراء الشهرة التي يعتبرها طاعون المجتمعات المعاصرة، إضافة إلى إقحام مفاهيم مُعلّبة يُصار إلى تعميمها حول الجمال والعلامات التجارية والموضة، ويتطرق الفنان إلى سبل التواصل الاجتماعي والإنترنت والوسائل الافتراضية الأخرى التي تتم من خلالها حماية الخصوصية وتفعيل حركات البيع والشراء والتحقق من هوية الفرد عبر صوره. كما يتناول الفنان مواضيع شائكة أخرى كالعقائد الدينية والتقاليد والوحدة والعزل الصحي والإدمان”.

واللافت في أعمال الفنان، التي استخدم فيها مواد مختلفة من طباعة ومرايا وزجاج وغيرها من المواد، أنها توحي ببرودة قارسة شبيهة بتلك التي نشعر بها حين ندخل المختبرات الطبية؛ برودة تحيلنا إلى لامبالاة الذين هم في تلك السجون الأثيرية التي أظهرها الفنان إيف خياط في التصاميم الفنية – الإيحائية للمرايا التي تعكس السجون الداخلية المؤدية حُكما بحرية الفرد إلى الجحيم والتي هي في آن واحد ما يطلبه الفرد كي يحمي خصوصيته من الآخرين.

أعمال الفنان التي استخدم فيها مواد مختلفة توحي ببرودة قارسة شبيهة بتلك التي نشعر بها حين ندخل المختبرات الطبية
أعمال الفنان التي استخدم فيها مواد مختلفة توحي ببرودة قارسة شبيهة بتلك التي نشعر بها حين ندخل المختبرات الطبية

ومن العناوين الدالة على معاني الأعمال الفنية التي قدمها إيف خياط في معرضه نذكر “الأيقونات، مُرهقة” و”انعكاس” و”العودة إلى العتمة” و”حبل بلا دنس”.

كما تجعلنا هذه البرودة نفكر أيضا في هؤلاء العالمين بماهية هذه السجون (وهم أغلبنا) والذين لا يستطيعون أو هم غير راغبين في كسرها. لذا يبدو ان لمعرض “السجون المعاصرة” أبوابا مفتوحة يدخل منها الزائر ليواجه حقيقة حريته المزيفة في عالم معاصر هو في حقيقته طاحن لكل الحريات الشخصية. وتتواصل الأفكار التي يطرحها الفنان لتصب في معلم واحد وهو الوحدة القارسة التي يعيشها الفرد حاسبا نفسه في مأمن من الآخرين.

وحين يتوسع المشهد أمام زائر المعرض تظهر صور مشاهير العالم ممن أودوا بحياتهم كمارلين مونرو وكورت كوبين وغيرهما، سجناء صورتهم الشخصية وسجناء شهرتهم التي دفعتهم بطريقة أو بأخرى إلى أحضان الموت الفعلي، ومن هنا أظهر الفنان صورهم على قطع تحاكي الشفرات.

المشهد العام للمعرض ليس أقل تشاؤما إذ يتعرض الفنان إلى ماهية الموت خارج معناه العضوي المباشر. ففي أحد الأعمال تُجسد صورة امرأة مُطرقة الرأس بجسدها العاري ما لم يعد “بيولوجيا” ولا حتى شهوانيا. أما كونه على قيد حياة صاحبته فهو أمر مشكوك فيه. جسد ليس بجسد تنبض فيه الحياة، بل مساحة موشومة بجراح “تقنية”، إذا صح التعبير، ومرآة لبرودة العالم المعاصر. في أعمال الفنان مجتمعة استخلاص للفكرة الكبرى التي انضوت تحت لوائها بشكل أو بأخر الأعمال الفنية: الوفرة هي موت، والتحصّن ضد الآخر هو موت، أما عجلة التطور فلا تسير إلا على حطام إنسانية تفقد إنسانيتها يوما بعد يوم نحو مُستقبل مجهول ويُرجَّح أنه مفتوح على العدم.

يُذكر أن الفنان مولود في مصر، غادر وطنه بعد الثورة المصرية نحو فرنسا حيث انهمك في دراسة الفن لمدة خمس سنوات في المدرسة الوطنية للفنون في مدينة نيس. اختار سنة 1973 أن ينخرط في عالم الإعلان والترويج ليؤسس شركته الخاصة التي أتاحت له أن يتعرّف على مختلف التقنيات البصرية المعاصرة.

سنة 2002 بعد تقديم عدد من المعارض الفردية غادر إيف خياط عالم الإعلام نهائيا ليتفرغ حصريا للفن. منذ سنة 2006 والفنان يقيم معارض فردية في باريس وإيطاليا وفيينا وبلجيكا وبريطانيا والولايات المتحدة وتركيا واليونان والكويت وبيروت.

14