ساهر نصار يُمعن في عوالم السخرية السوداء من المواضيع الشائكة

"الجبهة الأمامية تضرب بأقصى قوتها" بلوحات غامضة.
الجمعة 2023/09/29
الدمار ملهاة سوداوية

يعيد الفنان الفلسطيني ساهر نصار تشكيل الرموز الشهيرة، ليصورها بلمسته الخاصة وأسلوبه الفريد، وهو هذه المرة يحملنا إلى جبهة أمامية تضرب بأقصى قوتها، يحضر فيها حنظلة وفلسطينيون آخرون بسخريتهم السوداء من الواقع ومن الكثير من المواضيع الشائكة.

لا يهدأ الفنان الفلسطيني متعدد الوسائط ساهر نصار من معالجة المواضيع الشائكة والأكثر حساسية منذ أن نضج نصه البصري المنفذ بوسائل فنية ومواد فنية متعددة، وهو يقدم في صالة “زاوية” الفلسطينية فرع دبي معرضا له تحت عنوان “الجبهة الأمامية تضرب بأقصى قوتها”. وافتتح المعرض في 28 سبتمبر الحالي ويستمر حتى 30 من ديسمبر القادم.

عندما ننظر للوهلة الأولى إلى أعمال الفنان الفلسطيني ساهر نصار السابقة والجديدة نجد نصا مُبسّطا يطغى عليه الاختزال ومشغولا بألوان مُشرقة تبعد كل البعد عن أي شكل من أشكال الغنائية البصرية، وتقرب بشكل كبير إلى عالم التصميم الغرافيكي والرسومات الكرتونية.

ولكن ما يلبث الناظر إلى أعماله أن يعثر على درامية المواضيع المعالجة أو على سخرية سوداوية “تضرب بأقصى قوتها في الخطوط الأمامية” أي خطوط التماس بين عالمين أو منطقتين أو حالتين متناقضتين لتُحدث تأثيرا مهولا يتبدى في ما يأتي بعدها أو ينتج عنها.

الأسلوب الفني الذي يعتمده ساهر نصار كما في معظم أعماله السابقة يساهم في إنشاء غموض لا تلوكه العتمة

بالأمس قدم الفنان في الصالة ذاتها معرضا أطلق عليه عنوان “الأبدي”، ومعرضه الجديد لا يخرج عن منطق المعالجة الفنية لا من حيث الألوان ولا من حيث الأشكال المُختزلة ولا الموضوع الذي يصل في النفس العربية ليتشعب في مواضيع أخرى مثل الموضوع الذي يتناوله في معرضه الجديد، من حنظلة الصبي الفلسطيني الباهر إلى الجندي المُتشرب كراهية وسوء تقدير حين يعقد مسارا محفوفا بالذهول والمرارة الضاحكة.

ففي معرضه السابق، وباختصار شديد، أول ما لفت هي الألوان التي استخدمها الفنان في لوحاته، ألوان دافئة وباهرة إضافة إلى استخدامه اللون الأسود الرصاصي. وإذا كان حنظلة ناجي العلي مرسوما بصرامة الأسود والأبيض كجزء من تجسيد لما تعنيه كلمة حنظلة في الأساس، أي نبات ثمره شديد المرارة حتى بات يضرب المثل بمرارته، فإن حنظلة الفنان ساهر نصار ذو مرارة بطريقته الخاصة: فهو الضاحك سرا، والمُتفجرّ لونيا، والمُظهر صلابة عوده الذي يكاد يكون آليا في بعض الأعمال – وتاليا غير قابل للموت بالمعنى الذي نعرفه كبشر – والمنتصب تحت درع واق شبه كامل، والعائد دوما بجناحيه الملائكيين وتاجه الملوكي. حنظلة ناجي العلي، الذي يشبهه بلطافته وبشبه نصاعة أحلامه، يرسمه الفنان ساهر نصار ببنية جسدية غليظة، واقفا بضخامته ولكن أخذ بأفكار ومشاعر مُشاهده إلى ظل الزمن حيث لا يزال يقف حنظلة الصبي الوديع والمشاكس.

يحلو لنا اليوم أن نرى حنظلة ساهر نصار متأملا مثلنا في ما يجري في لوحاته في معرضه الجديد لاسيما من حضور لقطبه النقيض أي الجندي المُداهم للمنازل الذي يصوره الفنان بأسلوب ازدواجي المعنى حيث من ناحية تحوّل معه الدمار إلى ملهاة سوداوية عامة لاسيما في اللوحة التي أطلق عليها عنوان “أولاد الاحتلال 1″، ومن ناحية ثانية يتساءل المرء إن كان هذان الجنديان هما “أولاد” هذا البيت المُبعثر بأسلوب يذكرنا بما يفعله جنود الاحتلال عند مداهمة منازل الفلسطينيين. أولاد تربوا على أن صناعة الموت لعبة مسليّة.

نص مُبسّط يطغى عليه الاختزال ومشغول بألوان مُشرقة تبعد كل البعد عن أي شكل من أشكال الغنائية البصرية

السير في حقل من الألغام هو ما يقوم به الفنان في معرضه هذا. فلا يخرج عمل فني من إطار هذا التشويق الملوّن والعابث الذي يكتسي ظلالا نفسية مُرعبة. والأسلوب الفني الذي يعتمده ساهر نصار كما في معظم أعماله السابقة يساهم في إنشاء غموض لا تلوكه العتمة، بل تسكنه الألوان الأكثر صراحة ووضوحا. نذكر في هذا السياق اللوحات التي تحمل عناوين “مشوار طريق” و”رحلة إلى المتحف” و”أطفال الاحتلال 2″. هذا مع العلم أن الألوان ليست العنصر الوحيد الذي يقيم الالتباس ما بين المُفرح والمُحزن والتناقض ما بين المُرعب والفكاهي.

في لوحة “رحلة إلى المتحف” نرى طفلا عاريا/هيوليا على أرض المتحف محاطا بلوحات تجسد العنف وأخرى تحضر فيها الأنوثة/الأمومة. وتذكر واحدة من هذه اللوحات بأسطورة تجمع القوة بالحنان وهي “درب التبانة”. وتقول الأسطورة إن الطفل هيركيلوس أُحضر بواسطة أثينا إلى هيرا لتعتني به. فحنّت عليه، غير أنه رضع من ثديها بقوة إلى درجة أنه تسبب في ألم هيرا ودفعته بعيدًا. فرُش حليبها عبر السماوات، وشَكل درب التبانة.

في المعرض لوحات أخرى تجمع العنف بالمرح لتشكل نموذجا جليّا عن السخرية السوداء. من هذه اللوحات المجموعة التي تحمل ذات العنوان “الهدف”.

ويذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن الفنان يعود إلى تيمة “القوة عن طريق اختياره للجندي الذي يجسد معنى القوة ومظهرها. القوة كظاهرة تحمل أكثر مما تظهر من معان ودلائل”. ويضيف البيان أن “الجنود خلف ما نرى منهم يخضعون لتدريب قاس يصل إلى حد غسيل الأدمغة وتشريبها بما يرضي السلطة المسؤولة عنهم وغالبا على مضض من هؤلاء الجنود”.

عنف محفوف بالمخاطر
عنف محفوف بالمخاطر

ربما لا نستوعب تماما ما المقصود بهذا الكلام الذي لا يبرر أو يعقلن أفعال الجنود القاسية بقدر ما يحاول أن يردّ هذه التصرفات إلى أثر التجييش الفكري الذي يتعرض له الجنود.

يبقى القول إن الدخول إلى هذه الأبعاد النفسية المرتبطة بالعنف (لاسيما الإسرائيلي) والمحفوفة بالمخاطر مهددة بأن تنزلق إلى متاهة سوء فهم لا يحمد عقباها. في هكذا مواضيع يستحيل الوقوف على الحياد حتى وإن كانت ملامح وجوه الجنود مخفية، وحتى لو تعلقت أعمال الفنان على حبال نوع من السريالية المنتمية بشكل كبير إلى عالم الغرافيكس الملون.

يُذكر أن الفنان متعدد الوسائط ساهر نصار من مواليد غزة بفلسطين سنة 1986. تخرج في كلية الفنون التطبيقية في فلسطين ثم تخرج في جامعة “هيرتفوردشاير” في بريطانيا. بدأ حياته العملية كرسام للرسوم التوضيحية وعمل أيضا في فن التصميم الداخلي. ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى اكتشف شغفه بالفن لينطلق حصرا في هذا المضمار.

يستخدم الفنان مختلف الأساليب والمواد المتنوعة ليوظفها في خدمة أفكاره التي يتشابك فيها الاجتماعي بالسياسي. وتراوحت أعماله ما بين الفن المفهوم والبوب آرت (ونذكر أن مجموعة “حنظلة” تنتمي إلى هذا النمط الفني). له مشاركات كثيرة في معارض جماعية كما أقام معارض فردية وله مجموعات فنية تحت عناوين “إغواء” و”استعارة” و”شبكة اتصالات”.

Thumbnail
Thumbnail
Thumbnail
14