سؤال أكثر من عبثي

يستثمر الدكتور بي جي ميلر، الكلام الكثير عن كورونا ليعيد السؤال التاريخي عن تعريف الموت، في محاولة لإيجاد إجابة ملائمة لطريقة تفكيرنا تحت وطأة ضغوط الوباء، فيما أصدر كورونا حكما نهائيا بالموت على مئات الآلاف من الناس.
الواقع، إن الدكتور ميلر مؤلف كتاب “دليل المبتدئين للنهاية: نصائح عملية للعيش في الحياة ومواجهة الموت” مهما كان علميا فإنه سيفشل في الإجابة على السؤال التاريخي “ما هو الموت؟” لأن البشرية عبر تاريخها فشلت في الإجابة على مثل هذا السؤال، لذلك وضعت الحلول المعادلة في فلسفة الأديان وصنعت القصص الغيبية عن الموت وما بعده، من دون أن يؤكد أي دين أن لديه شاهدا واحدا عاد من الموت ليخبرنا ما حصل له! وإلا لانتهت كل مشاكل العالم، لأن الإنسان سيعرف مسبقا ماذا يحصل له بعد أن يموت!
مع ذلك، أرى أن مجازفة الدكتور ميلر المختص برعاية المسنين، في إعادة إطلاق سؤال ما هو الموت في مقال بصحيفة نيويورك تايمز، يستحق الانتباه، ليس لأنه سيحل مأزق الأديان مع الغيبيات، بل لأنه يعرفنا بما يحصل لأجسادنا بعد أن نموت، بالطبع لا يتحدث عن الروح!
وباء كورونا يدفعنا أكثر إلى أن نستوعب فهم الموت. فالاعتراف بموت الآخرين شيء، وقبول موتنا شيء آخر. تلك ليست مجرد ضرائب عاطفية يجب علينا دفعها بعد أن أودى الفايروس بحياة 1.6 مليون شخص في مختلف دول العالم. بل حال يرغمنا على دمج الموت في حياتنا.
لدينا خياران وفق الدكتور ميلر إمّا مشاركة الحياة مع الموت وإمّا أن يسرقنا الموت. لأن العالم لم يتطوّر أخلاقيا واجتماعيا إلى درجة يتعامل فيها مع نظام رعاية صحية ذي قوى تكنولوجية خارقة توقف الموت ولو إلى حين!
في النهاية، الطب ما زال عاجزا عن قلب مسار الطبيعة، وسواء بفايروس كورونا أو بغيره، ولا يزال الموت يحصد ضحاياه. وهذا سبب يدفعنا إلى إيجاد فهم جديد للموت.
فكّر الدكتور بي جي ميلر بالإجابة على السؤال التاريخي بعد أن قضى عقودا في ممارسة مهنة الطب، وعبر عن اعتقاده بأن الموت حقيقة بسيطة، وحدث فريد باسم بغيض، لكنه واضح في حدوده من أيّ شيء آخر.
يعترف الدكتور ميلر بعجزه عن معرفة ما هو الموت! ومع النصوص الأدبية المقدسة وغير المقدسة والزخارف التي تستخدمها الثقافات الدينية بتقديس الحياة لفهم الموت، لكنها لم تستطع أن توقف الموت.
حتى الطب عندما عرف الموت فإنه اختصر الأمر في توقف لا رجعة فيه لوظائف الدورة الدموية والجهاز التنفسي والدماغ. وهو تعريف مبسط لا يفي بالغرض العقلي المقنع للأحياء عندما يصف أحد أعمق الأحداث في التجربة الإنسانية.
لكن الدكتور ميلر يؤكد أن الجسد هو الجزء الوحيد الأكثر واقعية في حكاية الموت، لأنه بفهم ما يحدث للجسد بعد موت الإنسان يصبح من الصعب تحديد ما إذا كان الموت موجودا بشكل مطلق.
ويكتب “منذ الولادة، خلايا الجسم تموت وتنمو كل يوم. يبلغ العمر الافتراضي لخلايا الدم الحمراء، على سبيل المثال، 115 يوما في أفضل حالاتها، لذلك فإن سيرة حياة الجسد هي عملية موت تؤدي إلى حياة. حتى يتمّ كسر تلك الهدنة بالموت”.
مع ذلك يؤكد الدكتور ميلر بأن الموت ليس نهاية الجسد، لأن الروابط الكيميائية للخلايا كوحدة للبناء والوظيفة تستمر بالانهيار على مدى أشهر بعد الموت. تتأكسد الأنسجة وتتحلل، ولا تتوقف الطاقة التي كانت تحرك الجسم في يوم من الأيام إنها تتحوّل عبر الاضمحلال والنمو.
وهكذا تستمر عملية التسوّس حتى يصبح كل ما كان جسدا شيئا آخر، يعيش في الآخرين، في العشب والأشجار، وتتحول الجينات إلى حزم تعتاش عليها كائنات صغيرة. هذا ينطبق على الأجسام الميتة سواء دفنت أو أحرقت، لأن الذرات تبقى سليمة ومتناثرة.
لا يرغب الدكتور بي جي ميلر في التطفل على السيرك العجيب للدين في تفسير الموت، لأنه يعرض تفسيرا علميا للموت، لكنه يعترف في النهاية بأن العلم لا يملك الإجابة على سؤال ما الموت ولماذا وماذا بعده؟